شجرة المعرفة
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
هنالك في الف البعيدن تسكب القمم المُضيئة ظلالها المقدَّسة حتى تستطيع أن تتملَّى من روية وجهها على صفحة محيط رائع وترسل تحياتها إلى العزَّة السماوية الكائنة في عالم هو عالم المعرفة، فهو يشتمل على اسرار معرفة وتبحر لا مثيل لهما.
هذا الكوكب الهائل الذي لا حدّ له شبيه بشجرة ثمارها نجوم، وكل ثمرة منها كتاب علمّي أو أدبي. العِلم هناك لا ينضب بل يتجاوز إلى حدٍ بعيد ما تنعم به الكواكب الأخرى من المعرفة، إذ أنه على علاقة مباشرة بالشجرة المحورية الرئيسة.
إنه عالم اشبه ما يكون بأرزة باسقة، أغصانها ممتدة نحو الجهات الرئيسة ومتَّجهة نحو الآفاق وهي مُثقلة بالكتب والمخطوطات التي لا حصر لها فتنحني لثقل ما تحمله من نجوم الثقافة والمعرفة. المعرفة في هذا المكان الساحر هي الخبز اليومي ولا همَّ للنخب فيه سوى بلوغ حد الكمال بثقافتها.
المُصطفون السماويون المُقيمون عند هذه الشجرة ينعمون بغبطة أبدية، فإذا أضرّ بهم الجوع، يقتاتون بجواهر السماء السحرية فيشبعون ويزدادون معرفةً. ونظرًا لاتساعها الذي لا حدَّ له، فإن المئات بل الألوف من السنين ليست بكافية ليأتي سكان هذه الشجرة عليها بكاملها، فهم يشبعون شهيتهم لزمن محدَّد، فعندما يبتلع القارئ الكتاب، هذا هو أسلوب القراءة هناك، إنما هو ينعش الحروف في ذاته إلى الأبد من الكلمة الأولى والصفحة الأولى إلى نهاية المخطوطة أو الكتاب، فهو يسكب في كيانه ما اختار من الثقافة من أطباق شجرة المعرفة اللذيذة، الشهية. والعلاَّمة المتبحِّر في ضروب المعرفة الذي يستسيغ القراءة ويتلذَّذ بها، تزداد قامته وقوام جسمه.
هنا تتصرَّم الأعوام بسرعة البرق فلا نشعر بها كيف تنقضي، فهي أشبه بغيوم عابرة. وبعد العديد من القرون يكون ساكنو هذا العالم قد فرغوا من قطاف جميع الثمار التي كانت تحملها الشجرة العملاقة لتقدمها لهم.
وهكذا يتحول هؤلاء الكائنات المُحبَّبون إلى الله إلى علماء لأن الله لقَّنهم المعرفة الإلهية فكل واحد منهم وكلما انصهرت فيه نجمة من نجوم العلم يكبر ويتعاظم حتى يُحاكي شجرة المعرفة ضخامة.
سيأتي زمن يكون كل مُقيم في هذا العالم الساحر قد بلغ حدَّ الشبع والكفاية لأنه حصل على كل ما يحتاج إليه من أطباق هذا العالم الشهية. عندها ينفصل كل واحد من رجال الله هؤلاء ليصبح بحد ذاته كوكبة من النجوم والأنوار تضم في أعطافها الحقائق وأمهات المعرفة الأساسية التي تُسْتَمدُّ من الله مباشرة وهكذا يمكننا القول بأن النجمة الأم قد أنجبت أبناءً مماثلين لها، ربتهم في أحضانها وغذتهم من معرفتها لتجعلهم على صورتها ومثالها.
أما في عالمنا فيعاني الناس من الجوع، من العطش ويمزِّق أحشائهم بؤس هذه الأرض. أما هناك في مساحات الضوء يتمثَّل الجوع بالحاجة إلى اخضاع النفس وتهذيبها من أجل تحويلها إلى نجم تسود فيه المعرفة وتفرض قوانينها. غير أن هناك غشاءً صفيقًا يحجب عنا هذا السرِّ الكائن منذ الأزل.
شجرة الله هذه تؤتي ثمارها مرّة بعد مرة كلما تمّ الجنى وجمع الغلال حتى يتسنَّى للمُقيمين الآخرين الإفادة من المعرفة التي يريد الله اعطاءها لهم. والروح الإلهي كائن في الشجرة المُتألقة التي تنير السماوات جميعًا.