الرجوع
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
كانت ليلة هانئة لا يعكّر صفوها شيء. مجرّة الله تتالق وتلمع ونجوم لا عدّ لها تعكس أنوارها ذات الألوان السمفونية على صفحة أوقيانوس مقدّس.
أجل، إننا نتمتع ونعجب بكواكب لا حصر لها، بفراديس سماوية في هذا الكون الرائع البديع. هناك تقيم أرواح مقدّسة فاضلة ضحّت فيما مضى بكل شيء حتى تجد في الزمن الحاضر الغبطة والهناء.
إن هؤلاء المُختارين موزعون في مستويات مختلفة في السماوات غير أنه ما تزال تربط بينهم عرى صداقة قديمة وأخوّة. انفصالهم هذا ناتج عن استحقاقاتهم المُتفاوتة، فالأعمال توصل كلَّ واحد إلى العالم الموافق لكرامته وقدره.
هكذا فالعديد من الأصدقاء مفصولون بعضهم عن البعض الآخر بفعل العدالة وهم ينشدون غالباً امكانيّة التلاقي والعناق مُستنذكرين الواحد أو الآخر ما أمضوه سويًّا من الأيام. إلاّ أنّ تبادل الزيارات بين الكواكب غير مسموح به فقوانين تلك العوالم دقيقة صارمة لا جدال فيها. ما هي الأسباب الداعية لذلك؟ لا أحد يعلم، فالأحكام الصارمة نافذة دائمًا. لكن السماء لا تتسبّب بالحزن والأسى لاحبّائها بل تأخذهم بحلمها فتهيئ لهم مكانًا للقاء وتتحوَّل الأفضاء ما بين النجوم إلى فراديس عدنٍ وتكون ممّرات العبور ما بين النجوم محفوفة بالأشجار، وأماكن الاستراحة مُحاطة بالحدائق الرائعة الغناء، والأزهار النورانية ترسل انبعاثاتها المُتعددة الألوان إلى هذه الأماكن الرائعة فتملأ أجوائها بأعذب العطور.
والأشخاص الذين تحوّلوا إلى شموس مُجنحة يحوّمون من مكان إلى آخر يرفعون الشكر إلى الله. وتتحول جلاميد من الحجارة الكريمة إلى مقاعد ذات ذراعين وتقدّم ذاتها للزائرين الكثر مُزيّنة المشاهد بأطرافها الملوّنة.
هناك وفي جوّ مُقدّس أبعد من الوصف، يستعيد من اصطفتهم هذه السماوات ذكريات الصداقة ويضعون المُخططات لمستقبلهم. أولئك المُنتمون إلى العوالم العلوية يتقدمون بالنصح والإرشاد لفتيانهم ويساعدونهم دافعين إيّاهم إلى تحسين تصرّفاتهم دون توقف وإلى الارتقاء بنفوسهم، فالمحصلة مفرحة وسعيدة، وكان كل واحد يصف كوكبه مبيّنًا جماله وروعته.
أما نحن، ومن ارضنا البائسة، من البعيد البعيد، فلسنا بجديرين ولا بمؤهلين أن نصف الفراديس الإلهيّة فجملة مفرداتنا لا ترقى إلى سموِّ هذه القمم الساحرة، وسأورد لكم مثالاً بسيطًا على ذلك.
تخيّلوا شجرة عملاقة شاهقة، خالدة، بلون أخضر زمرذدي، فاردة جناحيها، تعبر دائرة السماء من جهة إلى الأخرى مرتجلة تآليف مقدّسة، ثمارها عبارة عن سلال من النجوم الرائعة يعيش في كل منها ملائكة صغار، وكل شيروبيم يمثّل نوطة موسيقية. وما تجدر الإشارة إليه أن نوطات هذه العوالم الخلابة هي أكثر تطورًا من تلك العائدة لأرضنا.
عندما تحلق شجرة الموسيقى العملاقة وتنفصل عنها السلال، يقوم الملائكة الصغار المزودين كل منهم بقوس كمانٍ أشبه بشعاع من الضوء، يقومون بعزف سمفونياتٍ الهيّةٍ يعود بعدها كل منهم الى مسكنه وترجع السلال إلى مواضعها على الشجرة.
تضمّ الشجرة الطائرة مكتبة سمفونيةً يرتبط بها ألوف الملائكة الصغار، وربما موسيقيونا العظماء أمثال بيتهوفن وشوبان وموزار يعودون بأصلهم إلى هذا العالم وأن شعاعات غير مرئية تنبعث من هذه الشجرة حاملة لهم الوحي والإلهام لتسمو نفوسنا بموسيقى كلاسيكية جميلة.
قاطنو هذا الفردوس الساحر ينعمون ويتلذذون بهذه السمفونيات المقدَّسة رافعين آيات المجد إلى الله.
وبالعودة إلى الآفاق والأجواء التي تحولت إلى فراديس، فهناك تنهال أزهار نينوفار مقدَّسة شلالات تمتزج بمياه من الذهب، وتنير النجومُ البعيدةُ هذا المكان الخياليّ، وتنهمر زخّات من الياسمين والورود وشتّى أنواع الزهور ناشرة عطورها في كل مكان. وتدندن طيور ملوّنة ويمامات نجوم المدائح الى الله على الدوام.
في هذا المكان الفائق الجمال الذي، وبكل أسف، لا يمكننا أن نراه باعيننا، يجتمع مختارو الله عندما تدعو الحاجة، يتعلمون هناك ويتباحثون بمسائل علميّة لا قابلية لنا على فهمها فمستوانا على الأرض لا يؤهلنا أن ندرك ونستوعب معارفهم.
وللأسف الشديد، نحن نعيش في هذا الدرك الملوّث بالخطايا، ولا بد لنا من عبور الآلاف من السنين حتى نتطهر وتترقى نفوسنا قبل بلوغنا هذه الذرى الذهبية، ذرى الأحلام، وقبل أن نجتني المعرفة عن هذه السماوات البعيدة.
لنكمل الآن قصتنا.
ففي أحد هذه الأيام، هبط إلى الأرض شيروبيم سماوي على وجهه الصافي مسحة من البراءة، ذو وجنتين ورديتين وابتسامة ساخرة. إنه أحد أتباع شجرة الموسيقى وقد ولد لعائلة تحوز على أملاك واسعة وجنائن ومروج فسيحة جدًا. كيف حدث أن أقام هذا الفتى في عالمنا؟ لقد هجر احدى السلال السحرية وتزحلق على حزمة نور وصولاً إلى كوكبنا.
ما زال مجيء هذا الملاك الصغير لغزًا من الألغاز، لقد تربّت آنج، (Ange) وكبرت بين أهلها مدلّلة، وكانت تزداد طيبة وعذوبة، وتصبح موضع محبَّة من الجميع، والجميع يرغب في أن يضمها ويغمرها بالقبلات وكل من يراها يهتف بعبارات الإعجاب.
- يا لروعة هذا الملاك!
أليست الشفاه التي تتلفظ بهذه الكلمات مُلهمة من بعض ربَّاتِ الوحي البعيدات؟ يبدو لي ذلك فعلاً.
ولا أحد يمكن أن يقف غير مبالٍ أمام هذا الجمال فهي مصدر فرح وبهجة لكل من يلتقيها.
الفتاة تزداد جمالاً يومًا بعد يوم. لقد قاربت الخامسة أو السادسة من العمر. أهلها هم من اختار لها هذا الاسم (Ange) عند ولادتها مع أنهما لم يكونا يعرفان شيئًا عن أصلها.
في يوم ربيعي مزهر رافقت الفتاة الصغيرة مجموعة من الأولاد ليلهوا معها في الجنائن والحدائق.
أيتها الفتاة ذات الشعر الذهبي، ما هذه الأرض البائسة بلائقة بك، أنت تنتمين إلى معبد الله وهناك ستحيين إلى الأبد. أنت أنشودة تسعدين الآذان والعيون، وفي صوتك عذوبة أخاذة، أنت نغمة موسيقيى مُجتناة من شجرة الموسيقى. لا أحد يمكنه أن يعرف إلى أين تنتمين، حتى أبوك وأمك.
كيف كان مجيئك أيتها الفتاة؟ هكذا هي عوالمكم، تحفظ أسرارها بكل ِّحرصٍ ولا تكشف منها إلا ما تريده هي. لكن هناك، في بلدك البعيد، يعيش كائن عزيز جدًا بالنسبة لك وهو يبحث عنك يريد أن يعرف أخبارك.
في هذه الأثناء، يرحل أحد المُصطفين عن كوكبه سعياً لايجاد آنج (Ange)، ويوغل في المدى الرحب الملئ بالنجوم والأزهار، حيث مًلتقى القديسين. هناك، في ذلك المكان الخيالي الساحر يروح يسبر بنظره الثاقب الطبقات السماوية ليبلغ بنهاية المطاف أرضنا الخاطئة، فيرى آنج وهي تلهو مع رفاقها في إحدى الجنائن. هو يرغب مهما كلّف الأمر وبكل كيانه أن ينتشلها من هذه الأرض البائسة ويحملها بين ذراعين إلى حيث تنتمي.
ويتَّخذ هذا الروح القدّوس حلة تنكرية فيتجسّد كائنا ذا وجهٍ ساحر الجمال ويهبط إلى هنا كيما يعثر على آنج (Ange). يصل المُختار إلى البستان ويتموضع في احدى زهرات أزرار الذهب وسط إطار من البتلات الصفراء.
وفي غمرة لهوها ومرحها تلمح الفتاة الوجه في قلب الزهرة فتؤخذ بروعته وتسرع إلى الزهرة لتقتطفها، فتسمع هاتفاً بداخلها يقول بأنها تعرف هذا الكائن الذي تليق به الفراديس العلوية العلوية. وتهمُّ الفتاة لتقطف الزهرة الساحرة فترى الوجه يبتعد ويروح يطير من زهرة إلى زهرة فتلحق به وهو لا ينفك يطير كالفراشة فتمد يدها لتمسك بعنقِ الزهرة وتقطفها فيفر الوجه بعيدًا كل مرة. كانت الجولة طويلة غير أن مرج الزهور شارف على نهايته وتتمكن الفتاة، بعد أن ارهقها الجري، من اقتطاف الزهرة المقدسة تلك، وبعيدًا عن جميع الأنظار.
في اللحظة عينها يكبر زر الذهب ويرفع الفتاة ليضعها قرب المصطفى في قلب الزهرة المقدسة، وتنغلق البتلات الجميلات وتخبيء ورائها هذين القديسين. وتتحوّل الزهرة إلى نيّر مُجنح وتحلق راجعة إلى مسقط راسها.
وهكذا تعود "انج" (Ange) إلى سلتها الموسيقيى وتلتقي باصدقائها فينعمون بالغبطة الأبدية.