الساعة
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
انّي أنظر إلى ساعتي، أفكّر، دقيقة واحدة ما زالت مُتبقية قبل أن ندخل سنةً جديدة، وأننى أقرع الأجراس من أجل السنة التي تنقضي. وها أنا أتهيّأ لاجعلها تقرع الحان البهجة والفرح لقدوم العام الجديد.
ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا انقضت منذ الذكرى السنوية الأخيرة. اليوم في هذا العالم يتكون من أربع وعشرين ساعة، والساعة من ستين دقيقة، والدقيقة من ستين ثانية. هكذا هو التوقيت على الأرض.
وإذ تنساب أفكاري مجاريةً مسار الوقت، أسمع ضحكة جزلى وهازئة. وحوالي منتصف الليل وأنا وحدي في غرفتي أكاد أنهار من الخوف. إلاّ أنني أعود فأتمالك نفسي، فقد رأيت فجأة نورًا مُتالقًا على شكل كرة وبداخلها لاحت لي إلهة رائعة الجمال، حُلتها شموس مُلونة لا تعداد لها، وتوجهت بالحديث قائلة:
أنا أدعوك لزيارة مملكتي. إنها هائلة الاتساع، شاسعة، وستشعرين بالأسف الشديد إنْ أنت لم تريها سأعرّفك بنفسي: اسمي الساعة. أنا أسيّر الوقت في جميع العوالم. أنا أحكم شموسهم وأنوارهم.
لن أفوّت بالتأكيد فرصة ومناسبة كهذه فهي قد لا تتاح لي ثانية.
أما وقد استطعت أن أضبط مشاعري فها أنا أدخل هذا العالم الجديد الذي أضحى صغيرًا حتى يتسنّى لحجرتي أن تحتويه. وتنطلق الكرة المُنيرة التي أزورها وتروح في تحليقها المهيب مُنطلقة من النافذة. وما أن أصبح هذا العالم في الخارج حتى راح يكبر ويكبر كلّما ابتعد عن الأرض إنه عالم لا حدود له، إنه لامتناه في حين أن أرضنا التاعسة ليس لها سوى شمس واحدة وقمر واحد، في حين أن هذا العالم يتألق عبر آلاف النجوم المُتعددة الألوان.
لقد بهرتُ. وابتسمت هذه الربة لإعجابي وشديد فرحي وأخذت بيدي قائلة: أنا، كما ترين، أحسّد عالم الشموس، وعندما شاهدتك تنتظرين اللحظة الصحيحة المُناسبة لتحتفلي بالسنة الجديدة، أخذتني شفقة حقيقية بك لأدراكي جهلك للحقيقة. عالمك على الرغم من صغره يُحصى الثواني والدقائق والأيام والشهور لكي يستطيع أن يكوّن سنة. لديك آلة صغيرة تسمينها ساعة. هي تعلمكِ بهذا الوقت الثمين بفضل شمس واحدة أرسلها أنا لكم. والإنسان عندكم يبلغ على الأكثر مئة سنة من العمر وهذه المدّة تعادل في بعض العوالم جزءًا صغيرًا من الثانية.
أخذتني دهشة كبيرة لما سمعته فيها، لكنني أعجبت كثيرًا بثوب هذه الأميرة. تخيلوا ثوبًا نُسِجَ من شموس؛ ثوب يطاول مداه حدًّا لا يمكن إدراكه. فكل طيّة من طيّاته تنطوي على شعاع نورٍ يوازي العديد من الشموس ذات الألوان الكثيرة، المُنيرة.
وجه هذه الحورية كائن في وسط هذه العوالم، يبتسم للنجوم التي تكسوها وتتوِّجها، وهي، الحورية، تدور بحركة تسبّب الدوار، تجذب في دورانها ثوب العوالم الفريد من نوعه. ومع ذلك لا يبدو إطلاقاً أن هذه الحورية تدور فهي تبدو ثابتة هنا، أمامي، فأدرك بأن سرعة دورانها تجعلني اعتقد أنها ثابتة لا تدور.
وتتابع حديثها فتقول:
"الآن سنزور مملكتي. أنا مسؤولة عن ست مئة من العوالم؛ أنيرها بالشموس وأقسِّم أوقاتها وأنظمها، فلا تتعجبي من ذلك ولا تنسي أن الشموس لها علاقة وثيقة بالأوقات.
الأرض مثلاً، هذا العالم الكائن على مسافة وسطى بين السماء والجحيم، هي عالمكم المسكين البائس الذي ليس له سوى شمس واحدة وآلة الوقت عندكم لا تعمل إلاّ بالساعات.
ثمَّ، ومن خلال فتحة في ثوبها حيث يتسرّب ضوء الشمس التي تنير عالمنا، سمحت لي أن أشاهد كوكبنا، الأرض، وقالت لي:
دعينا لا نضيِّع المزيد من الوقت هنا. وفتحت طيّة أخر في ثوبها السحري.
هذا هو العالم الرقم واحد، أسرّت إلي. أنظري. له ست شموس. وكل نجم من نجومه هو أكبر بست مرّات مما هو لديكم. في هذا العالم تكرّ السنون بسرعة دون أن تؤثر بشئ على ساكنه، إذ أن الوقت بسبب مروره السريع نصبح مُجرّدًا لا تأثير له، ويبقى الشباب هنا نضرًا خالدًا.
سكان هذا العالم سعداء يستسلمون لمباهج ومسرّات فردوسهم؛ يتذوقون ثمرات أشجاره، يتنعمون بلذاذاتها وفضائلها السحرية. كل هذا في عالم ليس سوى العالم الرقم واحد.
وبكل هدوء، راحت تكشف طيّات ثوبها الساحرة متيحةً لي فرصة النظر إلى عوالم متنوعة سابحة في أنوار شموسها. كلّما تقدمنا من عالم إلى آخر، يصبح عدد النجوم مُضاعفًا وعدد شموس العالم الثاني، الرقم اثنين هو إثنا عشر، أي ضعف ما هو في العالم الأول، وهكذا دواليك.
وتنسكب دفقات من الأنوار المتعددة الألوان شلاّلات تروّي هذه العوالم المباركة، المجهولة والبعيدة.
ليس للوقت القيمة التي ننسبها اليه، فالقرون والآلاف والملايين بل والمليارات من السنين لا تكتسب أيّة أهمية في هذه العوالم الراقية.
وكلما تقدمت أكثر في زيارتي كان يتزايد عدد الشموس عالمًا بعد عالم، ويطول النهار بالتوافق مع النجوم حتى يبلغ مداه الآلاف، الملايين، بل المليارات من السنين.
ونصل إلى العالم الست مئة.
يا للروعة! إنه مملكة الضوء...! وبالإمكان إحصاء الشموس الموجودة على هذا الكوكب. وبما يختص بي، فليس لي الشجاعة لفعل ذلك وفضلت فقط الاستمتاع برؤيتها تتوالى في مرورها وهي تنير بألقِها القمم والذرى السماوية. كم أنا عاجزة عن وصف هذا القدر من الجمال، فأنا ابنة الأرض ولغتي ومفرداتي هي من مستوى الأرض.
لكي تتمكن من التعبير عن هذه الروائع السامية المُهيبة ينبغي أن تكون من أبناء هذا الكوكب، الست مئة. الفرق شاسع، فأرضنا تحيا بفضل شمس واحدة.
لكن هناك، هناك تعيش وتحيا تلك النجمة البعيدة إلى الأبد مُحاطة بما لا حصر له من الجواهر العملاقة المُثيرة. كل شمسٍ هي أشبه بعقرب ساعة يشير وهو يدور إلى القرون عوضًا عن الثواني، وإلى المليارات من السنيين عوضًا عن الدقائق.
هناك لا يقيسون الوقت، فالصبا والشباب خالدان. الفرح والغبطة دائمان. هكذا يعيش مُختارو هذا العالم السامي.
وتستمرُّ الملكة في حديثها معي.
أترين؟ أنا أوجّه وأحكم العوالم ألست مئة جميعها. أنا مرشدتها ومصدر ضوئها. أنا بدوري أستمدُّ ينبوع ضوئي من مكانٍ أكثر سموّا، فالله هو نبع الينابيع، هو نور الأنوار، الله الذي لا بدء له ولا انتها. الله هو الماضي والحاضر والآتي والآن، ارجعي إلى عالمك الصغير، فلم تأتي ساعتك بعد، فلكل ما أردته هو أن أجعلك تعاينين مجد الله.
لم يتسّنّ لي الوقت لأشكر الآلهة ورأيت نفسي مُلقاة في غرفتي من جديد.
وتحين الدقيقة وتدق. انظري! هل هذا حلم؟ ماذا يمكن فعله في غضون دقيقة؟
على أي حال، أنا هنا من جديد حتى أحتفل وأعيّدَ بالسنة الجديدة، أجل، سنة سعيدة!