الغيوم
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
ذات يوم وبينما كنت أتمتَّع بصفاء السماء المُشرقة، لفت انتباهي نسرٌ أبيضٌ رائع يحلّق في ذلك الجو البديع. لم يكن ذلك النسر سوى غيمة. ثم وبحركة ملؤها الحيوية يختفي في المدى البعيد.
أيُعقل أن تكون الغيمة نسرًا، أو النسرُ غيمةً؟ واستدرك عندها أن مُخيلتي تحلّق، أنها مُسافرة وعلى شيء من الخطورة. إنها أفكار ينبغي ألاّ يجاهر بها المرء في مُحيطه، وتنطلق عندها ضحكات هزءٍ وسخرية؛ ترى من كان يسمعني؟ وأنا غارقة في أفكاري، يعود النسر فيظهر من جديد في الأجواء ويحدّق فيّ وهو يدنو مني على مهلٍ الى أن يستقرّ على كتفي في نهاية المطاف.
أنا لست أحلم، لا، إنها الحقيقة، النسر الأبيض هو فعلاً غيمة وغاية في الخفة والبقاء، أشبه ما تكون بغشاءٍ شفاف. ويضمّني النسر بجناحيه واضعًا إياي على ظهره، ويفرد نفسه في تحليق مُهيب، أما أنا وقد أخذت بهذه المفاجأة لم يكن بوسعي سوى الأذعان لمصيري.
أنا لا أخفي سرًّا إنه في لحظة من اللحظات اعتراني الخوف بأنني وقعت فريسة له وبأنني سأكون قريبًا طعامًا لهذا الطائر النهم. لكن ونظرًا لبياضه المُشرق النقي لم يكن النسر خبيثًا أو شريراً.
وابتسم على الفور، أجل إنه لغريب جدًّا أن نتخيّل طائراً يبتسم. لكن ما همَّ، هو يبتسم لخوفي الخفي، ثم أسمعه يقول، لا تكوني جبانة"، فأنا لست من أكلة اللحوم، فما أنا سوى غيمة، وأعرف أنّك تحبين الأسفار لذا أردتك أن تزوري موطني. قبل أن ألتقيك، لاحظت وأنا أطير أنك تنظرين إليَّ باهتمام، فقلت في نفسي، لِمَ لا نتعارف؟ فهذا ليس بالأمر السيئٍّ، لذا عدت أدراجي لآخذك إلى موطني الذي ستسعدين بزيارته.
أدهشني كلامه ولفّ روحي المُنذهلة غمام أسود حال دون فهمي كنه الكلمات التي أسمع.
كان مسارُ سفرنا جميلاً. نحن الآن بعيدان عن الأرض والنسيم يتبعنا مُثقلاً بالعطور العذبة. إنه يسرِّع من طيراننا ويحتضننا بلطافة.
- أيتها الغيمة، ما هي وجهتك، أيتها الغيمةت؟
- الفلك لي، إنه موطني وأنا متجهة نحو موطني السماوي. أنا أسافر حسب أرادتي، فأنا طائر من غير أن أكون طائراً إذ أنني وفقًا لرغبتي أتقمصّ كما أتمنّى، وزورقي يبحر دائمًا في هذا الأوقيانوس السماوي.
ولاح من بعيد بلد وكأنه خارج من القصص الساحرة، فقال لي الطائر:
أترين هذا المكان الساحر؟ إنه عالم الغمام. نحن جوهر الزهور العطر والجنائن. نحن البخور النقي الذي يدوّم ويحوّم في نفثات ناعمة. نحن دخان الأضاحي غير المحسوسة.
انظروا إلى هذا السور الضبابي الذي يحيط بهذا العالم، لا بدّ أنه سهل الاختراق، قلت في نفسي فهو أشبه ما يكون بقصرٍ من الورق.
لكنني اكتشفت أنني مخطئة ما إن اقتربت منه، فالمظاهر خدّاعة. هذا السور هو ألف مرّة أشدُّ صلابة من معادن الأرض، وعبثًا رحت أطرقه فما من مُجيب، في حين أن نقرة بسيطة من منقار طائري أحدثت فتحة واسعة أتاحت لنا العبور إلى الداخل.
اجتزنا الفتحة فعاد السور وانغلق من تلقاء ذاته.
- أترين؟ قال لي النسر، الغيوم لا تستجيب سوى للغيوم.
هكذا بلغت هذا المكان الحلم ورحت أجول فيه على مهل.
هذا فردوس تضيئه نجوم مُتعدّدة الألوان، فكل نجمة تسكب شلالات ضوءها على ناحيةٍ من هذا العالم ملوّنة الغيوم بالأحمر، بالأخضر، بالأزرق، بالبرتقالي وبالنفسجي ناهيك عن الألوان التي لا نعرفها والموجودة في هذه الأعالي.
الغيوم لا تتشابه فمنها الكروي، وأخرى كالطيور وغيرها كحيوانات أو زهور، فهي تسرّ في أن تغير شكلها على هواها، وبرمشة عين يتكون فردوس عدني صغير تكثر فيه الأزهار والطيور والفراشات والحيوانات الصغيرة الجميلة وغير العدائية.
على قمّة احدى التلال هناك قصر مبني ومحمول على غيمة هائلة الاتساع وكأنه في قصة من قصص ألف ليلة وليلة. هذا المسكن المُجنح مُحاط بأشجار أوراقها كالقطن وهو يتنقل حسبما يشاء فوق هذا البلد الساحر وهو مُحاط ببحيرة مياهها بلون النار تحت شعاعات شمس حمراء.
وهناك ملائكة صغار كالغمام يتلهُّون برماية خطرة. وأسمع ضحكات أشبه بترانيم ملائكة الله. إنها حوريات يتلهين بلعبة الاختباء والتفتيش. والفتيات الصبايا يتسلين بالتقمُّص والتحوُّل حتى تصعب على الناظرين التعرف اليهنّ. وتبرز من كل مكان أشياء لم تكن موجودة من قبل: زنبقة بيضاء، طائر من الفردوس أو شجرة مُثقلة بالثمار العذبة الشهية. ما من شيء ينقص جمال هذا المشهد الذي أبدعته الحوريات الصغيرات.
وفجأة تتحوّل هذه الشخصيات السعيدة لتصبح عنقودًا من البالونات أو إلى إلاهات مثيرات يؤدين الأناشيد.
يا نجمة السماوات المُجنحة الرائعة، أنا أعيش حلمًا يهدينيه عالمك وتغمر لي المسرّات المقدسة بعذوبتها.
وها أنا أُقتلَعُ فجأة من هذا المشهد الجميل. ليعيدني طائري الكبير إلى مسكني الذي وبالرغم من ضخامته، بات بالنسبة إليَّ مأوىً بائسًات يمضي فيه الإنسان تلك البضعة الأيام التي تستغرقها حياتنا الزائلة.
كنت غالباً أنظر باعجاب إلى السماء الضبابية الغائمة وأحاول تشبيه كل غيمة بكائن خرافي غريب.
وبينما كنت ذات يوم أتصفح كتابًا مُصورًا رحت أسمع صوت نسري يصرخ لي:
حاولي مقارنة السماء والكتاب...
وكنت كلما قلبت صفحة من الكتاب كنت أشاهد السماء والغيوم تتحول إلى لوحة هي نفسها المُرتسمة في كتابي، وراحت جميع تصاوير الكتاب تتوالى وكأنها أحد الأفلام.
وأنا الآن عندما أشاهد الأمطار تنهمر، تذهب بي أفكاري إلى احدى الغيوم التي تسكب دموعها، وتضحّي بنفسها إذ تغادر موطنها البهيج لكي تروي عطش ترابنا الظمآن. وأقول لنفسي إنها إحدى صديقاتي اللواتي عرفتهن في ذلك الملأ الماورائي البعيد.
أجل، أجل، يجيبني المطر الذي يصطدم بزجاج نوافذي، أنا هي الحورية، الملاك الصغير أو زهرة الثلج التي أحببتها كثيرًا.
وافتح نافذتي وتروح شفتاتي الجافتان ترشفان بعضًا من نقاط الماء المقدَّسة.
هذه قصتي الحقيقية الخيالية.