عالم الثلج
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
ووجدت نفسي في زورقٍ مُجنّح مُبحرٍ في الأجواء. ولاعتقادي بأنني كنت سأزور بلدًا شديد البرودة، ارتديت معطفًا سميكًا ووضعت حول عنقي وشاحًا عريضًا وقبعة شتوية تغطي رأسي ولا تسمح إلا لبضع خصلاتٍ من شعري بالظهور من تحتها.
وكان شابٌ جميل الوجه يُبحر بالزورق. ومع كونه شديد الشبه بالجنس البشري، فقد كان كائنًا لا أرضيًّا. جلست إلى جانبه في الزورق الطائر الذي أقلع من أرضنا بانطلاقه قوية. وبسرعة البرق بلغنا عالمًا ناصع البياض يغمره الضباب.
قال لي الملاّح:
- هذا هو عالم الثلج، عالم شديد التألق واللمعان، لكن لا وجود للبرد عليه، وهو يتكون من كِفارٍ تضمّ بيوتًا ريفية أنيقة شيّدت من الثلج ولا شيء غير الثلج.
كانت قبّة السماء المحفورة في الماسة هائلة الحجم ولا بداية لها ولا نهاية، مزروعة بالجواهر المتعدّدة الألوان والمنزلة في سماء بديعة، شديدة التألق، وكانت أنوارها تتداخل وتتشابك بشكل رائع مُبدعة العديد من أقواس القزح.
كان سقف الزورق مفتوحًا، ما سمح لنا بالتنعم والاعجاب بالمشاهد التي كانت تتغيّر وتتجدّد كلّما تقدمنا أكثر. كنا نتأملها مسحورين ببياض الجبال الجليلة الناصع والتي كان كلٌ منها متوجًا بالشموس. كانت هذه الكواكب مُتمايزة بألوانها وكانت تمرّى على صفحة بحيرة قريبة.
كان الزورق مُنطلقًا بكامل طاقته يجتاز الفضاء وكان إذا اصطدم بأحد الجبال، انفتح الجبل عن نفق جميل كنا نجتازه تحت الأضواء المُشرقة التي تنيره وبين الأشجار المكسوّة بالأزهار على جانبيه.
رحلتنا في هذه الأجواء كانت رائعة، وكم كانت رغباتي كثيرة وعلى ذلك كانت تتحقق على الفور، وفي نفس اللحظة. كنت مُنذهلةً إزاء هذه الخوارق ولتحقق إرادتي على الفور.
تنبّه الملاّح لدهشتي فقال لي:
لا تأخذنّك الدهشة أبدًا، فعالمنا عالمٌ راقٍ! ألست تلاحظينَ بياضه الناصع؟ حتى إن منازلنا مشيّدة في الثلج. كل واحد منا هو مهندس بيته الخاص، هو يضع له التصميم ثم ما يلبث أن يراه مُشيدًا وجاهزًا لا ستقباله.
وفجأة تحط بنا المركبة المُجنّحة في الفضاء تمامًا كسائر المركبات الفضائية. طبيعة هذا البلد الرائع تسهلّ لملاّحنا وللمقيمين فيه أن يحققوا رغباتهم وعبثًا تدثرت لاخفي شخصيتي، ودخلت أحد البيوت. كان مشرقًا وبالغ النظافة، فقد صُنعَ من مادة لمَّاعة مُتوهجة قُدّت من الماسة عملاقة من طبيعة النجوم، وتضيئه شمس بلا انقطاع. كان البيت مُبهجًا فقد صُنع من مادة لا نعرفها نحن البشر، جدرانه مزينة بلوحات جميلة: شعرت أنني في نشوة إزاء هذه الروعة وهذه العظمة.
ويقول لي الملاح ثانية:
إن من يقصدون هذا البلد الذي تعاينين ويقيمون فيه هم كائنات مُختارة ذوات كرامة واحترام، فنحن قَدْ مَنَّ الله علينا بالحرية والقدرة والرضى بأن نأتي بالروائع في هذه السماء الجميلة. فأنا غالباً ما أجمع غيومًا كنفناف الثلج وأكوّن منها الجنائن وأصعدُ الى الشموس الملوّنة أستعين بشعاعاتها لأورّي تلك الحدائق التي تتحول عندها إلى فراديس عدنية صغيرة تزداد روعة واشراقاً بفعل الألوان المُنسكبة عليها من النجوم. هذه الألوان ترسل بأنوارها اشارات امتنان وشكر. وتلك الأشجار التي تشاهدين هناك هي عمالقة مُجنّحة. إنها بيضاء لكنها تتحوّل بحسب اختيارها مُختزنة رونق الألوان وألقها.
ويتابع الملاّح فيقول:
لدينا بحيرات ضفافها من الزهر وليس من الرمل. فإذا نظرت من النافذة ترين الحوريات يسبحن في المياه التي تشبه الفسيفساء وبالرغم من بقائه سائلاً فكل جزيئ من هذه المياه لا يمتزج بغيره من الجزيئات، أمّا الحوريات الجميلات فيكتسين بأزهار عملاقة.
وفجأة شاهدت من بعيد سيّدة نحيلة، أنيقة ممشوقة القامة، نحيلة الخصر. كانت كالسايكلوب مزودة بعين واحدة كبيرة وسط جبينها الناصع البياض. شعرها الأشقر الطويل يشبه شعاعات النجوم، تحمله لها طيور الترغل وترفعه برفق ويحط بها جمع من الطواويس الملوّنة والبيضاء بأذيالها الخيالية البديعة. وجماعة من الحيوانات التي يمكن وصفها بالمتوحشة، غير أنها مسالمة في هذا المكان، تحيط بسيّدتها التي تحبّها إلى درجة الشغف، فهي ملكة الكوكب. كانت مرتدية الجواهر الملكية التي لا مثيلات لها في غير هذا المكان. الملكة حكيمة وبحكمتها تسيّر شؤون مملكتها وتسوسها.
ويخبرني مرشدي مزيدًا من المعلومات:
نحن على هذا الكوكب مولجون بأمور كوكبكم، الأرض. فمن هنا نحن نتحكّم بالطقس الجميل والطقس الرديء عندكم، ونقطف الغيوم ونرسلها إليكم. بفضلنا تحصلون على الثلج والمطر والبرد. نحن نختار المناخ المناسب لكل ناحية. غير أن بعض الأوامر تصلنا من رؤسائنا لكي نعاقب بعض الشعوب الذين يحيدون عن توجيهات الإله ووصاياه، فنطيع الأوامر ونمنع النعمَ الإلهية عنهم، نمنع الوفرة ونمنع الخصب.
كوكبنا هذا، يتابع دليلي، مزود بينبوعٍ ينساب من الذرى الخالدة وينثر علينا نورًا كنديف الثلج، مادّة بريقها كالألماس. غير أن الثلوج والمياه التي ننزّلها على الأرض بانتظام هي من مادة مُختلفة معدّة خصيصًا لذلك العالم المتدنِّي، الأرض.
ولنا يعود الفضل في وجود الخصب لديكم. عندما تتبخر مياهكم، تعود فترتفع إلينا مجدّدًا وتتخذ أشكالاً متعدّدة من اللوحات والرسوم التي تمثل سلوك الكائنات الحيّة على الأرض ونحن نحكم عليهم وفاقًا لتصرفاتهم وننزل بهم العقوبات التي يستحقون. وبناءً على ذلك يحصل الجفاف على الأرض والفيضانات والعواصف التي تفتك بالمناطق بكاملها. لدينا القدرة، يتابع دليلي، على احلال الجفاف على الأرض وعندها تحلّ المجاعة لديكم وتفتك فتكها.
ويبتسم لي الملاح ويتابع قائلاً.
موطننا جميل، طاهر، شفّاف، بلّوري. نحن كائنات نشيطة كالنحل. واعلمي أننا نتمّم حرفيًا ما يمليه علينا من هم أرفع منّا منزلةً.
وفجأة رأيتني جالسة بالقرب من الملاّح في مركبتنا ورحت أتأمل عالم الثلج الجميل. يبدو هذا من الخارج كحلية عملاقة تسبح في الفلك الفسيح، حلية بيضاوية الشكل تشبه شجرة اسطوانية الشكل تتزين أوراقها بالعديد العديد من الأحجار الكريمة البرّاقة كحبيبات من البلّور. وكانت أوراقها وهي تتصادم فيما بينها تعزف موسيقى ساحرة مقدَّسة.
- يا ليتني استطيع أن أسمع هذه الألحان إلى ما لا نهاية.
- ثم ومن البعيد شاهدت مُفتاحًا لموسيقى ما تزال غير معروفة يحيط بوجهٍ عرفتُ أنه وجه الدكتور داهش، نبينا الحبيب يتبعه إنسان عرفته، أنها أمي. ثم فجأة وجدتني على الأرض من جديد. وتلاشت جميع الجمالات التي تمتعتُ بمشاهدتها واختفت، واختفى معها دليلي.
- ليتنا نستطيع أن نمضي حياتنا في هذا الموطن الجميل الذي يسمّى ببلدِ الثلج، البلد الذي سيلازمني الحنين إليه ما حييتُ.