موطني الجميل
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
قرأت في أحد الأحلام: "موطني الجميل"
هل يا ترى يُمكنني أن أجد موطنًا. جميلاً؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ فأنا أجوب العالم بأكمله ولم أعثر على موطن جميل، فما أعثر عليه ليس سوى الكذب والجريمة والمراءاة والسرقة وكل ما يدعو إلى النفور والابتعاد إلى البعيد البعيد.
أزور المدن والدساكر والقرى، وأزور الجبال والهضاب والمروج فاغادرها مُسرعة، وبعد كل رحلة أقبع ساهمة حزينة أفكّر وأصرخ:
يا إلهيّ! أليس هناك كهفٌ على الأقل أعيش فيه وحدتي بعيدًا عن البشر؟
للأسف لا، فحتى هناك في تلك المغاور تطالعك العقارب والأفاعي بلسعاتها المُميتة.
الحياة ليست سوى معركة ضارية، شرسة، وعليك أن تصارع بقوة حتى تتخلَّص من سمومها القاتلة.
ذات يوم وأنا على دربي الطويل، جلست في فيء سنديانة جليلة أنشد بعض الراحة. كان الزمن ربيعًا: الحقول مزهرة والسواقي تنساب في مجراها. رأيت خنفساء ذهبية يلوّن الأخضر الزمرُّدي بعضًا من حلّتها الغنية. كانت تتألق وترفرف جزلة تحت أشعة الشمس. إنشادها جميل، جميل جدًا. كنت مُتشوقة لإلتقاطها وتقبيلها، لكنها جدّ صغيرة وجدّ كبيرة في الوقت عينيه، وأخشى أن اتسبّبَ بأيذائها. هي تحلَّق بدوائر ثم تحطّ على وردة حمراء كبيرة تكاد تتفتح وبعضُ بثلاثها بادية للأنظار.
وتتفتّح الوردة رويدًا رويدًا مُبديةً طلعها الأصفر الذي تناولت منه الخنفساء ما أشبع شهيتها، لكنها ما زالت تأكل حتى أتت على الوردة كاملة وتناثر فناتها على الأرض. وتعود الخنفساء إلى التحليق والغناء.
حزنت كثيرًا لأجل الزهرة التي غابت عن الوجود قبل أوانها وقلت في سري: يا لخبث هذه الطبيعة. أليس مُحزنًا أن نحيا على هذه الأرض؟
وتدرك الخنفساء ما أفكر به وتقترب مني وهي تطير وأسمع في غنائها كلماتٍ وجملاً وأقوالاً؛ أسمع كلامًا كاملاً يقول لي: لا تغضبي أيتها النفس الأرضية، فالوردة التي تبكين هي الآن في موطني الجميل.
أيها اللحم البشري المائت، تتابع الخنفساء، لقد أُرسلت خصيصًا إلى هنا لكي أعيد الوردة إلى موطنها الأصلي! هناك ستكون على الدوام. لقد تقمَّصت هذه الوردة نجمًا مُتوهجًا يضيء فردوسه العدني!.
أنا من ذلك العالم وأعرفه معرفة حقةً، فهناك يخيم الصفاء والغبطة على الدوام. الطبيعة تتألق بألف لون ولون. والأشجار هناك تسير؛ ليس لها جذور تقيدها، ثمارها كالكؤوس مليئة بالأسير نقطفها تمامًا عند أعناقها.
الطيور الفردوسية تفردُ أرياشها الملونة وهي تطلق أصواتها بانسجام. ملائكة صغار يرددون الأنغام السماوية ويلهون بتقطيع الغيوم ويحتون منها طيورًا وفراشاتٍ بلون الذهب أو اللازورد أو الفضة، وينطلق هؤلاء يطيرون في فراديسٍ سحرية.
وتنفرج السماء ذات الفضاء الأحمر عن نافذة مُستديرة تتيح للناظر رؤية سماء ثانية بلونٍ أحمر فاتح أكثر. هناك تسبح الأسماك من جلدٍ إلى جلد في حين أن انبعاثاتٍ من الأضواء الرائعة تنساب موسيقى فرحةً فوق المطارح الفارغة من الحدائق وتكسوها على الفور بالأزهار، وتتقمص النفوس في نجوم تزداد روعةً وجمالاً.
وإذا ما أردت أن أخبرك عن فردوسي، عادت الخنفساء لتقول، فحديثي لن تكون له نهاية، وربما ذات يوم سأعود فالتقيك في موطني الجميل.
وتختفي الخنفساء عند الأفق تاركة إياي مُسترسلة في أفكاري وفي استحالة اللحاق بها بنظراتي. ربما هي تختبئ خلف العمام أو تتابع دربها نحو المجهول. هنا كل شيءٍ خبيث وحزين.
ومأخوذة بافكاري، خلدْت إلى السكينة والهدوء في ظل سنديانة، ورأيت عندها مشهدًا غاية. في الفخامة؛ فقد تحولت الوردة الحمراء إلى نجم لامعٍ أشبه ما يكون بزهرة تبدو لك بتلاتها كالنجوم.
وينتظم النجم ورفيقاته النجمات على أوراق الوردة مُشكلين باقةٍ من النيرات تنصهر جميعًا مُلتحمةً مُشكلةً كوكبًا عظيمًا، وتتبوء هذه الزهرة السحرية عرشًا في ذلك المدى الساحر الفاتن.
ويروح ملاك أكثر عظمة يوقّع لحنًا سماويًا بينما كانت الوردة تسكب السنةٍ من النار هي عبارة عن كلمات تروي على ما يبدو قصّة حياة الأرض الحزينة الزائلة، الأرض عالم الدموع.
كل شيء هنا تلفّه التعاسة، حتى الأزهار التي تنمو في الحقول والبراري والتي تبدو لنا شديدة الجمال، هي تعيسة تبكى من الأسى.
كل لسان من السنة اللهب الذي تطلقه الوردة هو كلمة. وتتتابع الكلمات إثر الكلمات وتنسكب في كتاب يروي حياة الزهرة على الأرض، حياة مليئة بأحداث لا تصدّق.
وتدخل الخنفساء السماء وقد تحوّلت إلى ملاك غاية في الضخامة، أخاذٍ الجمال يحتضن الوردة المُتزايدة روعة وجمالاً ويتحدّ وإيّاها إلى الأبد.