في بلد الأحلام
من أقاصيص زينة حداد
ترجمة سمير الحداد
كم هي جميلة كلمة حُلم!
يأخذنا النوم كما في مركبة سابحة نحو بلد الأحلام. أهو يا ترى ارتحال نحو عالم الخيال؟
حاول فلاسفة كثير أن يبيّنوا مدلول الأحلام، لكن أحدًا لم يتمكّن فعلاً من الإضاءة على هذا الموضوع الدقيق وتوضيحه، فما زال أصل الأحلام ومصدرها مجهولين لدينا.
أحلامنا متنوعة: منها ما هو ساحر مُفرح ومنها ما هو بسيط ساذج، وأخرى هي كوابيس مُرعبة. ألا تأخذنا العاطفة والرقَّة غالباً عندما نرى الأطفال يضحكون وهم نائمون ألا يكونون ربما يحلمون بملائكة صغار ويتبادلون الابتسامات معهم؟
في إحدى الليالي الهادئة، الصافية التي كانت ترصِّعها النجوم ويتوِّجها قمر بدر
وكنت أنا اتملأها من نافذتي، وأتأمل وأفكر في المجد الإلهيّ، وأغوص في شتى الأفكار ومن بينها الحلم، وإذ أعجبتني نجمة بعيدة. كانت تتألق وتومض. "ترى، قلت في نفسي، " هل يحملني إليها أحد الأحلام؟"
راح النعاس يُداعب أجفاني فأستغرقت في نوم عميق. ورأيتني فجأةً أتسلق سلّمًا ذهبيًا وأرتقي درجاته بسهولة وبدون جهد. ها أنا أتقدم أكثر فأكثر. كم هي عالية؟! وبلغت أخيرًا نهاية مساري. هناك غمرتني شمس رائعة بأنوارها وحملتني غيمة على شكل نسر عملاق على جناحيها وحلقت بي نحو عالم مجهول. أخذتُ بسحرِ كل ما كان يحيط بي. كانت الغيوم بألوان قوس قزح تحفُّ ونحن مُحلِّقين، وتتحول وتتشكل كما يحلو لها، حدائق تارةً أو زهورًا أو حتى باقة منوّعة من الحيوان. كنا ونحن نحلّق في الفضاء نقضم بتلذّذ واشتهاء ثمرات الغيوم المُتحوِّل إلى أشجار. وبلغنا كوكبًا أحمرَ، نجمًا متوهجًا، لاهبًا هائل الضخامة يسدّ أمامنا الآفاق. كان لهذا الكوكب بوابة هائلة مُرصعة بالعديد العديد من الشموس. واانفتحت البوابة عن حورية أخاذة الجمال، كالغزال رشاقة لكنها جدُّ كبيرة.
إنها إلهة رائعة. شعرها المرصَّع بالنجوم ينسدل على كتفيها العاجيتين. وجهها أبيض نقيّ، وعلى وجنتيها مُسحةٌ وردية خفيفة. جبينها كما المرمر الأبيض مُتألق وفي وسطه عين تومض كأنها شمس من الشموس ترسل أشعتها كل لحظة وإلى كل مكان. عين ساحرة البهاء تحيط رموش طويلة تنير الكواكب كما الشمس ويحمل كل رمش في طرفه عينًا صغيرة بلون الماس يكاد لا تُرى، وتستطيل الرموش حسب ارادتها أو تقصر ويمكنها أن تبلغ جميع الكواكب التي تسيّرها هذه الآلهة، فلا يفوتها أو يُخفى عليها شيء.
تقوم الحوريّة الفاتنة بمهمتها بشكل كامل وأنا مأخوذة بجمالها الجذّاب. دعتني الحورية للدخول وهي تبتسم فدخلت وأقفلت الباب الخارجي وقالت:
إسمي حُلُمْ وهذا الكوكب لي، لذا نحن نحمل الاسم نفسه. أنا مسؤولة عن هذا العالم وجميع أحلامه. مملكتي تفوق بأبعادها أبعاد الأرض لا أعرف بكم من المرّات، وأنا أقيم هنا في هذا العالم الساحر.
كنت وأنا أصغي لملكة هذا العالم السحري مأخوذة بما تراه عِيناي من الروائع الموجودة فيه بوفرة. الحدائق تمورُ بالأزهار وبأنواع جمّة من الأغراس المتلألئة الغنية بالألوان. بُحورٌ من الزهور المُتعددة الألوان تنبسط حتى اللانهاية، وترسم العديد من التصاوير والأشكال فتصبح أشبه بلوحة من الفسيفساء الرائع. إنه لَفَنٌ إلهيّ لا قدرة لأرضنا للإتيان بمثيل له. هذه البحار المزهوهرة تعكس ظلالها في القبة السماوية بتلاوين لا عهدة لنا بها. وتروح في لهو كأمواج البحر تقلّدة تموجاتها الرشيقة، ثم بين مدٍّ وجزرٍ تستسلم لاحضان الصفاف الذهبيّة الباسمة.
وتنبلج الآفاق غير المرئية عن حزم أنوار برّاقة شبيهة بعقارب الساعة تدور لترسم التحيّة والسلام.
ويحوّم ملائكة صغار فوق مروج الزهر، ويتمسّكون بجذوع تحمل على رؤوسها ورودًا مُتفتحة على شكل مظلاَّتٍ يتساقط منها رذاذ لا ينضب من العطور الفوّاحة يستحمّ برحيقها الملائكة الصغار.
أفواج من الطيور الفردوسيّة تردّد ترانيم علوية وأشجار أوراقها من زمرّد تنحني لثقل حملها من الثمار القرمزية الغنية بالعصائر الشهية، وذات الفضائل المقدّسة. وتتناهى إلى أسماعنا موسيقى عذبة لا نعرف من أين فتزيد من روعة هذه الأماكن الخلابة الساحرة.
وأنا أحلم، بلا، أولست في عالم الأحلام؟
ورحت أعبر فوق فراديس نيّرة دائمة البسمة، وشلالات تسكب مياهها بلون قوس قزح وهي تهمس بموسيقى عذبة. ويأسرنا سحر هذا الجمال الخلاب، وتغمرني الغبطة وتحتضنني، وتنشر فوقنا النجوم الكثيرة ألقها فتملأ به الأرجاء.
كم نحتاج من القرون لا بل بلايين السنين لنتمكن من وصف وتعداد روائع هذا العالم السماوي الذي لا حد له حيث يسود الزهو والآبهة العارمة. إن ما أرويه هو بعض مما حفظته ذاكرتي فقط، لأن غشاوة سحرية حجبت الكثير منه أو جعلتني أنساه وكأنه لم يكن.
لقد سحرتني هذه الزيارة الفردوسية وها أنا أرى النسيم العليل يتلاعب بغشاوة شفافة لا حد لطولها فتموج برشاقة وجمال فتشيح عن مناظر جميلة وحدائق. ومع كل نسمة يتح لي القماش مشاهدة مناظر تتغير وتتبدل وتجعلني أشعر بالذهول.
وتتساوق هذه المناظر بانسجام مع اللمحات المزركشة بشتى أنواع الزهور. وهكذا يحول هذا القماش المتعدِّد القدرات دون استعادة ما لديّ من ذكريات.
عليك الآن الرجوع إلى الأرض، قالت لي الحورية، وأنا ملزمة أن أجعلك تنسين زيارتك في هذا العالم، لأنك إذا اضطررت إلى العيش مع هذه الذكريات، فستصبح حياتك على الأرض كابوسًا جحيميًّا وأنا لا أرضى لك بذلك بل أحب أن تكون بقيّة حياتك على الأرض هانئة.
غير أنني سأبين لك الغاية من وجود هذا العالم والمسؤولية المُلقاة على عاتقي.
إن عالمكم هو جزء من خريطة مجموعة الكواكب التي ما يزال أهلها يحلمون منذ تأسيس العوالم. الحلم هو امتداد لسيّال جذوره في جنتي ويروح يمتدّ نحو النائمين، يروي لهم بعض الحقائق والأحداث ويكشف لهم أحيانًا الآتي من الأيام ويلفت انتباه البعض إلى سلوكهم الشائن يمكن أن يكون الحلم تحذيرًا للإنسان من مخاطر سيتعرض لها. وتكون الأحلام أيضًا كوابيس رهيبة يعشش فيها الذعر الذي ينتاب الإنسان المُستغرق في نومٍ عميق ويصاب بنوباتِ خوفٍ لا يُحتمل.
حقيقة الأحلام غير محدودة. فكلّ إنسان يتلقّى فيها بحسب استحقاقه، فنفس الإنسان المُستغرق في النوم، أو اللاوعي عنده الذي يذهب إلى البعيد البعيد ويجتاز في لحظة من الزمن حياة أخرى في عالم خارجي غير عالمه، ويمكن لهذا الإنسان أن يعمل خيرًا أو يرتكب الإثم في منامه، وسيحكم عليه بحسب الأفعال التي عاشها فعلاً في واحدٍ من العوالم المُتعددة لأن للإنسان سيَّالاتٍ مُتبعثرة في العديد من الدرجات الروحية للعوالم حيث يمكنه أن يقوم بفعل الخير أو الشر.
أنا، باختصار، أشرح لك معرفة سمائي: في الفرح، أقوم بعملي دائمًا بدقةٍ مُتناهية، والله يغمرني بنعمة ويوليني ثقته المقدَّسة.
أنظري إلى حدائق الزهور هذه. هذه المنبسطات من الزنابق والورود ومن العديد غيرها من النبات، فكل وردة منها هي حلم. هناك تسجيل، شريط فيديو، مرتبط بكائن من الكائنات يُقيم على أرضكم أو على كوكب آخر. فإذا قطفت زهرة ووضعتها على واحد من الرموش الذي ليس سوى شعاع من الضوء، تنزلق الزهرة أو الحلم نحو النائم الذي يدخل عالم الحلم عندئذٍ يمكننا طبعًا تشبيه هذا الحلم بشريط الاخبار أو بالأفلام التي تصل اليكم عبر الأقمار التي تبث المعلومات الرئيسية من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، نعم هذا مؤكد.
هكذا يا صديقتي أنا أقتطف الأحلام، أي الأزهار التي تحفظ في نسغها أكبر وأعظم الأسرار. فمنذ بداية الخلق، أنا أرسل الأحلام، بعضها بواسطة الأنبياء الذين غدوا من التاريخ، هذه تحدث البلبلة في العالم، وأخرى ترتبط بميثولوجية العديد من البلدان وتكتسب شهرة واسعة. لقد أنقذت العديد من الأشخاص من براثن الموت بواسطة الأحلام ولطالما حذَّرتُ الرُّسل القديسين من المخاطر التي تحيق بهم فكانت بذلك نجاتهم.
ولطالما كان للأحلام دور هام عبر التاريخ، وأنا أقوم بعملي بكل حكمة وتساعدني في مهمتي الدقيقة ملائكة هذا العالم.
ثم اقتطفت الحورية الحسناء ثمرة قرمزية جميلة قدمتها لي وأمرتني أن أكملها، وهكذا فعلت. كم هي شهية هذه الثمرة ذات المذاق القدسي. وقبّلت الحورية جبيني وقالت:
وعودي الآن إلى موطنك وإلى سريرك فقد انقضى زمن الحلم. آمل أن أراك مجدّدًا في الآتي من الأيام.
لا تنسي، قلت لها. أرسلي لي أحلامًا جميلة وخاصة تلك التي تتصل بنبيِّنا الحبيب المُحتجب عن أنظارنا وقولي له بأننا نمضي أيامنا على أمل دائم بلقياه ورؤيته.
وعادت الغيمة، النسر العظيم، التي حملتني نحو هذه الروائع والجمالات، عادت لتأخذني.
قبَّلتُ الإلهة الساحرة وغادرتها وعيناي مغرورقتان بالدموع. وانفتح الباب العظيم فاعتليت ظهر النسر لأعود إلى موطني ومهجعي.
واستفقت فجأة.
يا اللهّ! لقد أمضيت وقتًا من الأحلام!
لا أعرف إن كان هذا حلمًا أم حقيقة واقعة؟ إنه ارتحال نحو عالم الأحلام!