فضة (المال)
من أقاصيص زينه حداد
ترجمة سمير الحداد
عوالمُ الله عديدة جدًّا، مُتنوعة، يختلف واحدها عن الآخر وتنتشر إلى ما لا نهاية مُتدرِّجة بحسب المَنْزِلة الروحية التي يتمتَّع بها كل واحد منها كالمقامات السامية أو تلك المُتدنية منها.
وكلما أمْعَنَّا في التَّسامي يتكشفُ لنا عالم أكثر بهاءً يزدان ويغتني بما لا حصر له من الأنوار والألوان، جاعلاً شراراته المُبهجة تنساب نحو أفضاء غير معروفة. أما تلك الكواكب ذات المستويات المُتدنية فتلزم مواقعها مأخوذة بسحر المجد الإلهيّ، مبهورة بهذه الإشارات الضوئية مُحييةً وجودها، رافعةً الصلاة تمجيدًا لله.
في تلك البقاع المجهولة يتركز العديد من المجرَّات. هناك عالم اسمه ، وفي ناحيةٍ من هذا العالم الفردوس، يطالعك العديد من كرات صغيرة تتألق جمالاً وبهاءً، وكل واحدةٍ منها كنايتة عن نجمٍ نفيس اسمه السماء الفضيَّة. وهو بوضوح أكبر عبارة عن "نموذج بارز التفاصيل يظهر جمال كل واحد من هذه الكواكب.
سكان هذا العالم، فضَّة، لهم الحق في زيارة تلك النماذج وبشروطٍ مُحددة، بغية اكتساب القدرة على تحسين سلوكهم وتصرفاتهم، والطموح لبلوغ فراديس أكثر علوية حيث تكون الثقافة والحضارة أكثر تقدمًا عمّا هي في عوالمهم.
يقيم في هذا الكوكب رئيس ملائكة ينعكس النور السماوي على وجهه وتنتشر ابتسامته البريئة في أملاكٍ قوس قزحيّة وتنعكس في كل مكانٍ، في مياه الشلالات، في الغيوم المُسافرة، أو في الأزهار. ويمكن للرأئي أن يعاين في كل مكانٍ، كما في مرآةٍ، وجه هذا الملاك الباسم، حارس الكوكب، هذا المصطفى الذي يكنُّ له قاطنو هذا العالم الساحر كل الاحترام. كان هذا الملاك يحوّم بفرح فوق الجبال والتلال وهو يوقّع الألحان على القيتارة. وكانت جوقات من المُنشدين تردّد النشيد المقدَّس، والسكان الكثُرُ يؤالفون أصواتهم بانسجام رافعين ايَّاها نحو السيد والغبطة والصفاء يسودان من أفق إلى أفق.
في هذا الفردوس نحتشدُ أصنافاً عديدةٌ من الطيور من كافة الطوائف. البعض منها كبير وتدعى الطيور القيثارة لأن ذيلها يشبه هذه الآله الموسيقية. وانتظمت هذه الطيور حلقةً وراح كل منها يعزف بمنقاره على ذيل الذي أمامه، الذيل الآلة الموسيقية السحرية، مرافقًا بموسيقاه الأناشيد المقدَّسة.
الأشجار المقدَّسة أيضًا مُثقلةٌ بثمارٍ قرمزيّة تشبه الكؤوس، مُترعةٌ باكسير سحري مهيئة لمن يشرب. ويلهو النسيم العليل أثناء مروره بقرع هذه الثمار الكؤوس مُبتكرًا أناشيد ساحرة.
هنا كان ينبغي أن ينشد لامارتين شعره: "أيها الوقت توقف! توقف عن التحليق! وأنت أيتها الساعات، توقفي عن الدوران! وكأني بالشاعر ضنين على هذه الهنيهة الساحرة، لا يريدها أن تنقضي، إذ هل كان يخطر ببال أحد أن هذا العالم المُفعم بالحياة سوف يزول ويتلاشى في الفضاء بغمضة عين؟!
وفي هذا العالم كما في جميع العوالم ارسى الله نظمهِ وقوانينه. فالأرض لُعِنَت بسبب التفاحة! ومَن مِنَ الكائنات لا يعرف قصة آدم وحواء؟ والعالم الذي تحدثنا عنه تلقى أوامر الله وعليه الانصياع لمشيئته وسلطته. فالنظام هو النظام وإن اختلف من عالم إلى آخر بحكم انتمائه إلى كل كوكب.
وتفتحت النجمة الزهرة وازدادت جمالاً وروعة وراحت تنشر ألق شراراتها في كل صوب. وكان رئيس الملائكة ساهرًا على أملاكه وحريصًا على سعادته الدائمة، وكان يُحلق مرتديًا الأوراق الخضراء من جهة والحمراء من جهتها الأخرى، وجناحًاه الكبيران المُنبسطان والمُزينتان بهذه الأوراق كانا يخفقان على ايقاع الأناشيد حفيفهما كان بلوريًا شبيهًا برنين الأجراس. الأجنحة الخضراء على هذا الفردوس، المُفضضة والعريقة باتت خالدة غير فانية، وكل واحد منها كان ينعم بعطيّة سحرية هي عبارة عن مفتاح يفتح باب احدى الكرات الصغيرة الجميلة التي هي عبارة عن نفس أحد النجوم النفيسة.
ويوزع الملاك أوراقه الناعمة كريش الطيور يكافئُ بها أولئك الذين أتوا وصايا الله، فمن كان اكثر استحقاقًا يقطف الاخضرار الفضي الذي يزهر ويُينع في ربيع دائم. أما المُقيمون الفرحون الذين استحقوا ونالوا سعادة كبرى فيقومون بزيارة النماذج الصغيرة المُتألقة بالأنوار والتي، كما سبق وقلت، تمثل السماوات الأكبر سموًّا. والأوراق الفضية كانت بمثابة بطاقات دخول إلى الكرات النماذج حتى يتسنَّى لمن يدخلها التعرُّف بشكلٍ مُعمّقٍ على العوالم العلويّة.
غير أنه كان هناك بين النماذج العديدة لهذه الكواكب المشهورة فلكٌ كرويٌ لا يستطيع أن يدع أسراره تتسرَّب إلى الخارج، فأمر الله جاء كالتالي:
"حذارِ، حذارِ! ما بداخل هذا النجم لا يجب أن يظهر للعيان، فهنا يحتجب سرٌّ مقدَّس ينبغي ألا يكشف لفردوسكم".
وقال الله أيضًا:
يا رئيس الملائكة، آمرك ألا توزع الأوراق، بطاقات الدخول إلى هذا الكوكب فتلاحقك لعنتي إلى الأبد، من جيلٍ إلى جيل إذا عصيت أوامري.
هكذا كان يمضي هذا النجم حياته مُتنعمًا بهناءٍ دائمٍ. وكان رئيس الملائكة يسيِّر أمور دياره بورعٍ وحميّةٍ ساكبًا فيها ألق النقاوة والطهر إلى اليوم الذي تملَّكه فيه الزهوُ والتكبّر فملآ قلبه بمُنْتهئ الخبث، فظنَّ نفسه السيد الوحيد الفريد في هذه الديار السماوية، فأسقطه كبرياؤه في الأعماق السحيقة لأنه تجرأ ووزع الأوراق الفضية على مُختاريه ليتمكَّنوا من زيارة النجم المحظور.
ودقَّت ساعة الهلاك وتوقفت نيرات الله عن التألق والبريق دلالةً على الحزن والحداد، وأظلمت السماء لأن كارثة وقعت.
وصدر عقاب الله! وفي اللحظة عينها تحوّل الملاك الجميل إلى شجرةٍ شيطان خبيثٍ وغرست جذورها في أسفل الظلمات وشقّ راسها ثرى أرضنا. وأضحى المال ثمر هذه الشجرة الشيطان. المال أضحى ربًّا لقاطني كوكب الأرض.
وكان المُحتكرون والبخلاءُ المُقترون ينزلون بعد موتهم عند هذا الشيطان الذي يمدَّهم بالمال إلى ما لا نهاية.
إلا أن المال هذه المرَّة لم يعد سوى أوراقٍ من نارٍ تحرق أياديهم.
وفي ذروة غضبه، أسقط الله هذا الكوكب من دياره واستنارت السماوات من جديد. وولد المال على الأرض بليةً من الشيطان الذي كان ملاكًا وسقط. هذا يذكرنا بواحدٍ من أشعار فيكتور هوغو:
الإنسان إلهٌ ساقط ما زال يتذكَّر السماوات.