الموسيقيّ الملعون
من أقاصيص زينه حداد
ترجمة سمير الحداد
صعلوك، مسكين، فقير تائه في بلاده، غير آبهٍ بالحياة أو بعمل يكسب منه قوت يومه، يتنطّط دون انقطاع بخطى لاهية من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية صغيرة قريبة. ينام في ضوء نجمةٍ، سقف مأواه السماء، يقتات من جنى طريقه متسولاً أو جامعًا ما يتساقط من ثمار الأشجار، وربما يقدم له أناس مُحبُّون عشاءً طيبًا.
هكذا كان دأب "إيف" في الحياة، وما من مرة كان مصدر خطر على الرغم من عينيه الوحشيتين ومظهره ومشيته الغريبين.
يعرفه أهل الحي معرفة وثيقة منذ ولادته. أهله يعُرفون بصدقهم ونزاهتهم غير أنهم سيّؤو الطالع، تعساء لأن لديهم ولد في مثل هذه الحالة لديه إعاقة في النفس.
كان الأولاد يتحلّقون حوله عندما يمر ويتهامسون بما بينهم: وها هو المجنون!"
أما هو، فغير آبه بهم، غير مبالٍ، يتابع سيره لا يلتفت إلى أحد وكأني به يسعى إلى شيء يصعب العثور عليه وكأنه يبحث عن كنز مفقود؛ ما هو هذا الكنز يا ترى؟ نسأل أنفسنا.
شيء واحد فقط يعيده إلى عالم الواقع، حين يصدف أن يمر أمام بعض المقاهي ويسمع الموسيقيين يعزفون على آلاتهم المتنوعة. فموسيقاهم هذه تعيده إلى يقظة الحياة، فيجلس بانضباط وتهذيب يسمع الألحان التي يؤدونها، فتراه مأخوذًا، مسحور اللّب بتساوق الأصوات وانسجامها.
ذات يوم، إثر انتهاء احدى الحفلات الموسيقية، يأخذ كمان أحد الموسيقيين ويحاول أداء بعض الجمل الموسيقية، فلم يصدر عنه سوى صرير محزن مزعج يدعو إلى الإشمئزاز.
عندئذٍ، وقد أصابه الحزن والسخط، رمى الكمان والقوس" وداسهما برجليه مُحطِّمًا اياهما قطعًا وصاح صارخًا:
وأنا أعظم موسيقيي العوالم العلوية لم أعد قادرًا على عزف لحنٍ أرضيٍّ بسيطٍ! يا لتعاستي! أصبحت في الثلاثين من العمر وأعيش كابوسًا دائمًا هو الموسيقى!
وينفضُّ الجمع من حوله وهم يتعجَّبون من حاله قائلين:
يا لهذا الجنون! كم هو بائس هذا الإنسان! وها هو يسقط على الأرض في حالة من اللاوعي، فريسة للهذيان، ويروح يسرد قصّة حياته، وأية حياة سيخبر عنها ما دام يمضي وقته مُنعزلاً عن الآخرين أسير تعاسته الداخلية القاتمة.
لكن لا، فما يتحدث عنه "إيف" هو عالم آخر، غير معروف منّا، عالم كان يعيش فيه قبل أن يولد هنا على الأرض.
يا إلهي!" ما ينفكّ "إيف" يصرخ، الرحمة، الرحمة على ما اقترفته من خطيئة. ضع حدًّا إلهي، لهذا العذاب. خذني. أعد إليَّ أدواتي، أنا من كنت قائد أوركسترا سماءك، أنا من كنت أقيم لك الاحتفاليات بأناشيدي وأغانيّ، وقد بتّ الآن عاجزًا عن عزف نغمة موسيقية واحدة.
ملعون أنا، ملعون أنا. أنا أشبه ما أكون بقايين، تائه على الدوام في العالم. لقد سقطت من فردوسي تمامًا كلوسيفورس من قبل.
نعم فقد اقترفت جريمة، وللسماوات قوانينها والجريمة هي دائمًا الجريمة، وعلينا أن نتحمَّل تبعاتها حتى ساعة الندم.
إلهي، مُنَّ عليَّ بعفوك حتى يتسنى لي استكمال دورتي السابقة. لقد قاسيت عذابات اليمة جدًّا.
جئت كوكب الأرض عالمًا من أين أتيت، ولم تفارقني لحظة واحدة ذكريات حياتي السابقة وذلك الملأ العلوي، أتذكر خطيثئتي، سقوطي وعقابي. لذا عشتُ مُنعزلاً، مُنطويًا على ذاتي، فالناس هنا ينعتونني بالجنون كلما جاهرت بالحقيقة، وأنتم أيها البشر، إسمعوني، إصغوا إليَّ!ّ أنا أشعر بأنني سأفارق الحياة، فصديقاتي، إلآهات الموسيقى، سيأتين ويأخذنني إلى الأعالي.
وأنتن، أيتها الحوريات، تعالين إليَّ، أسرعن! إقتطفن نفسي، افصلنها عن جسدي هذا الساقط!
ويصاب "إيف" بحالة من التشنجات ويروح يحرك يديه وكأنه يقود أوركسترا في حفل موسيقي "رائع" وينادي كل حورية باسمها السماوي "قائلاً لهن": يا نغيماتي الصغيرات، وأنتن غير حوريات صغيرات أشبه ما تكنّ بنجمات الفلك. أنتنّ شموس يملأ بريقكنّ بنجيمات الفلك. أنتنّ شموس يملأ بريقكنّ كياني! تعالين، هيّا أحطنَ بي ولتُقِمْ نبراتكن جوًّا من الأعياد! أنا راجع اليكن! احتضنني إلى الأبد.
هكذا يتكلمُ "إيف" قبل أن يستغرق في سباته الأبدي. وأنا الواقفة بالقرب منه، أعاين عالمًا أشبه بدفتر موسيقى تتقلَّب صفحاته دون توقف، وحوريات مُتناهيات في الصغر، شبيهات بالنجيمات يرسمن عليها نغمات الموسيقى.
ويعود "إيف" مُحاطًا بأصدقائه، يعزف ويعزف بلا توقف الألحان السماوية التي توحي إليه بها الشموس الصغيرة.