ذاكرة شعرة بيضاء
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
المُعجزة، ما هي المُعجزة؟
هل من يستطيع معرفة سبب هذه الظاهرة الخارقة ويدرك مُبرراتها؟ ومع ذلك ليس بوسعنا سو الأقرار بالوقائع والأحداث التي نحن عليها شاهدون.
ذات يومٍ ربيعيّ كنت أتنزّه بعيدًا عن المدينة وغبارها. كم كنت بشوق لتنشق نسيم الجبال العليل وعطور الأزهار المُتفتحة، والاعجاب بالصنوبرات الخضر وبشجيرات البتول، بالصفصاف، بأشجار السرو التي تجاور دروب الغابة، وشجرات السنديان المُعمرة الجليلة التي تُبسط أغصانها الوارفة.
النسيم العذب في هذا الفصل الجميل يملأني سعادة. كنت أستمتع إلى طنين النحل وأشاهد الخنافس وهي تقضم بتلاث الورود. آهٍ، كم هي جميلة الحياة حين يهدهدك النسيم العليل العطر!
استلقيت تحت احدى الأشجار كي أتنعَّم بهذا الجوّ الهادئ خلال وحدتي. إنه السكون. الربيع له لغتة طبعًا، لكن هل من يفهم تلك اللغة؟ كنت أتذوّق بكل كياني الاستراحة غير المُتوقعة.
أسندت ظهري إلى جذع شجرة ورحت أتلهّى بتقليب التراب بأصابعي وتفحّصه. وفيما أنا أتمتع بهذه اللعبة، كنت أشعر بأن معصمي مُحاطٌ بشيءٍ دقيقٍ جدًّا ومن الصعب رؤيته وتمييزه تحت لون الرمل الأسمر.
"كان بالقرب منّي ينبوع ماءٍ اتجهت نحوه لأغسِلَ يديّ علّي أرى الشيء حول معصمي. وما أن أزلت الوحل عن يديّ حتى رأيت شعرة بيضاء دقيقة جدًّا. وتمكنت من نزعها على مهلٍ ورحت الفّها جاعلة منها كبّةً صغيرة. كنت جدّ مُندهشة، فقد بلغ طول الشعرة عدّة أمتار. كيف أمكن أن تلتف شعرة بهذا الطول حول معصمي؟
إنه لشيء غامض كل الغموض، قلت لنفسي، ولا طاقة لي على كشف أسرار الطبيعة؛
وتناهي صوتٌ إلى سمعي.
لا ترتبكي ولا تبالي لمثل هذا الأمر البسيط. أنا صانع هذه المُعجزة، صانعها بقوة الروح الذي يسكن فيّ، وأنا، بغمضة عينٍ قادر على تحقيق ما أشاء. لا تندهشي من ذلك. أنا الشعرة البيضاء. لي فمٌ وليَ لسانٌ غير مرئييّن بالنسبة لك، وأستطيع التعبير عن ذاتي، وأنت بالتأكيد لا تعرفينني، إذ كيف قد يمكنك ذلك. أنا فملكٌ للآب، أبي الإنسان، وأنا باسمه أكلّمك الآن.
كنت أستمع وأنا جالسة دون حراك وقد أخذني الهلع. وكنت أتساءل إذا كنت ما أزال أحتفظ بنصف عقلي. كنت مذهولة، مأخوذة، وانتهى بي الأمر إلى السؤال:
- أيها الخيط الأبيض، ماذا تريد؟ هيّا اذهب وتحدّث إلى أحدٍ غيري!
- أنا أنتظرك هنا منذ آلاف السنين. أنا شعرةٌ بيضاء موكلٌ إليَّ حفظ أحداث وذكريات.
أنا وأنت ننتمي إلى ذاته، وكم مرّ علينا من أحداث وذكريات في هذا الماضي الذي عشنا معًّا!
تذكري! أنا لست سوى شعرة، وقد لامست كتفيك البيضاوين، وقبَّلتُ جبينك الأبيض كالزنابق، وظللت عينيك الكحلاوين وطوقت قامتك الهيفاء. لم تقوَ تقلبات المناخ ولا مرور الزمن على أفنائي. وها أنا نفسي ما زلت أنتظر أن أراك. لم أتغيّر، وأنا موجودة منذ حقبة الأرض الأولى، وكم من الأمور أستطيع أن أرويها لك! فأنا وقريناتي، بقية شعرات آدم تفرّقنا وتوزعنا في مهماتٍ نُنجزها على هذه الأرض. عددنا لا متناهٍ، وبمقدورنا أن نسرد بكل دقّة وأمانة تاريخ العالم، وسيدهش المؤرخون لسماعنا، لكن هناك أمور يجب أن تبقى خافية عن أبناء البشر. والآن سوف استدعي أخواتي.
وأطلقت الشعرة شعاعًا خاطفًا، ساطعًا راح ينتشر في أرجاء العالم. وما لبثت أن رأيت خيوط الشعر تتسارع على الفورِ ملبّيةً هذا النداء وتتجمّع وتتشكل فروة رأس رائعة البياض، وعطّرت الأجواء مُرحبة بي كل ترحيب. وكانت الشعرة البيضاء التي تخاطبني ما زالت غير مُنضمّة إلى أخواتها في الفروة البيضاء.
- أنا رئيستها، وهي تبثّ إلى بانتظام صورًا وأخبارًا أحفظها لديّ، سأثبت لك الآن كم أن كلامي صحيح ودقيق. التقطي فننًا وأعيدي لفَّ الكبة التي معك عليه وراقبي أثناء ذلك مسار الأحداث التي ستمّر أمام ناظريك. إلا أن فروة الشعر البيضاء هذه كانت سوداء فيما مضى، ولعلّنا لا ننسى أنها كانت لآدم في ريعان شبابه.
ثم رحت أشاهد الأرض بكامل حقبات تاريخها، الحروب التاريخية والكون عبر جميع العصور. شاهدت جميع البلدان والأقطار وكل قرية معروفة أو مجهولة. شاهدت البلدان التي ابتلعها البحر والبلدان التي دمرتها الكوارث المتنوعة، وشاهدت مدنًا في جوف الأرض وتحت المياه، وسافرت عبر العصور بجميع تقلباتها وكنت غالبًا ما أرى نفسي في حياة مشتركة مع أبي البشر. عاينت جميع ولاداتنا وموتنا، وعاينت دمار العالم وإعادة تلوينه، وما الحياة سوى إبتداء دائم، مُستمرّ.
وقالت لي الشعرة البيضاء كذلك: أنت تقمصت، أنت وآدم. وبعض البلدان التي دمّرت في الحقبات المُظلمة من الزمن، أعيد تكوينها بعد قرونٍ وبأدق تفاصيلها، فعادت مثلما كانت من قبل. ما من شيء جديدٍ ها هنا؛ حتى الاختراعات العظيمة التي نفيد منها الآن، كانت موجودة في ما مضى وهذه الصور تؤكد لك ذلك. أترين أيتها الصديقة؟ أنا سجّل أمين ودقيق منذ بداية حقبتنا. نحن الشعرات ملك لآدم، ونحن نشكّل جزءًا من جسده ونفسه، ونحن موكلاتٌ بنقل أسطورة الأرض البائسة وتاريخها إلى الله. ونحن مع آدم ما زلنا نكفِّر عن خطيئته. إنه لحملٌ+ ثقيل جدًّا بالنسبة إلينا.
أيا حوّاء، بالرغم من أنك كنت سببًا لهذا الشقاء، فأدم يحبك وهو يترقّب بشوق ساعة اللقاء بك وعدم الانفصال عنك مجدّدًا، فأنت له إلى الأبد. الآن سنختفي، وستجديننا ثانية فوق رأس حبيبك آدم، فكوني دائمًا بانتظاره.
واختفت الشعرة وجميع أخواتها، وصمت الصوت عن الكلام.
رحتُ أتملّى جمال الجنائن وأنا أقول لنفسي: الربيع يعود فيولد كل عام، وآدم سيولد من جديد، وسأكون بانتظاره.