السفينكس (أبو الهول)
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
ضللت طريقي وأنا أسير في الغابة ذات يوم. كان النهار يميل نحو الأفول، فرحت على عجلٍ أبحث عن طريق العودة. وصلت إلى فرجة بين الأشجار وشاهدت أمامي حاجزًا من الأشجار الرائعة المنظر والشديدة الارتفاع، كانت الأشجار مُنتظمة جنبًا إلى جنبٍ في خط مستقيم ومتتابعة وصولاً إلى فسحة غير محدودة.
أخذتني الحيرة أمام هذا المشهد وحاولت أن أخترق بنظري هذا الحاجز الكثيف من أوراق الشجر فلم أرَ سوى نجمٍ ينشر نوره على الصحراء.
كنت أسمع أصوات حيوانات من جميع الأنواع، أصواتًا حادَّة تكاد تمزق الآذان. ترى هل هناك حديقة حيوان في الجهة المقابلة؟ الحيوانات الا ليفة والمتوحشة تعيش مع بعضها في وئام وانسجام تأمين عند جذوع الأشجار كأنها تقوم على حراسة تخوم المملكة.
وفجأة غطت جميع أنواع الطيور وجه السماء. كان كل نوع يردِّد إنشاده بطريقته الخاصة وراحت زقزقة الحساسين والبلابل تختلط بنعيب البوم وبزئير الأسود ومواء القطط، ما أحدث تنافرًا جهنميًا بين الأصوات. واعتراني خوفٌ لا يوصف، خوفٌ يلامس الجنون فهزَّ كياني من راسي إلى أخمص قدميّ.
الشمس من ناحيتي غابت بالكامل، أما في الجهة الأخرى، فكنت أستطيع الرؤية من خلال بعض الفتحات بين أوراق الشجر والنباتات المُتسلقة. كنت أرى الكوكب المُنير إياه الذي رأيته منذ قليل يضيء السماء الصافية المُتألقة. حينئذٍ دوّى الرعد ورأيت أعصارًا يرتفع في زوبعة من الرمال، وبلحظة خاطفة حملني صوب الغيوم ليعود ويحط بي بعيدًا عن هذه الضفاف بالقرب من منزلي .
ويخاطبني صوت قائلاً:
- أنا الأعصار أكلمك، حاذري من العودة إلى هذه النواحي. إنها مناطق مُحرّمة. لقد أنقذتك الآن من الموت. غير مسموح لأحد أن يزور هذا البلد، لكنّي، ولكي أشبع حسرتك، سأروي لك قصته، وسوف تسمعين كذلك صدى ماضي هذا البلد الذي ما يزال سرًّا.
إليكم ما رواه لي وهو يصفر ويعصف، إنها بالحقيقة قصّة مُذهلة:
- هذا البلد هو صحراء تخيم عليها الوحدة المُطبقة، غير أن نورًا دائمًا ذا انعكاسات زرقاء يضيئ هذه المقاطعة الغامضة. كم من الأشياء والأمور تبقى مجهولة خلف ستار الماضي الصفيق. فقد أمرت الأجيال بالتزام الصمت هنا. ومع ذلك فإن الآثار والخرائب تسمح برؤية بعض معالم حضارة عظيمة منسيّة.
- هناك تمثال يشبه نصب أبو الهول الكائن في مصر، وقد خلّده الصخر الذي نحت فيه، ويتبوأ سدّة الملك منذ بداية الأزمنة، وهو يسرِّح نظره فوق مملكته من أقصاها إلى أقصاها، فيقظته وسهره على مملكته لا يتوقفان، وهو سيبقى دائمًا ملكًا على هذه الصحراء وما من كائن غريب عنها استطاع حتى الآن أن يطأ ثرى هذه الأمبراطورية التي كانت بلادًا خصبة في ما مضى. كانت الجنائن تغطي هذه الحقول الشاسعة، ويرويها أحد الأنهار من مياهه الحيَّة الرقراقة. الأشجار شهيّة الثمار، الأزهار ترتفع شجيرات كبيرة كما بشيء من السحر الفتّان، والأيام تعقب الأيام في حالة من السكون الفرح. كانت الحياة رائعة وكأنك في فردوس على الأرض ترك الله فيه بصمته وساد فيه كرّمُهُ وسخاؤه بكثير من الروعة.
كانت كائنات بشريّة تعيش في هذه الجنّة، وكان الغناء لغة هذا الشعب المُختار،
وكان زمرّد الأشجار الأخضر سقفًا فوق رؤوسهم وكان السندس الأخضر سريرًا لهم. هناك لا وجود للشيخوخة، وربيع هذه الجنّة أبديّ. تخبر التدوينات أن نجمة، في ما مضى، جعلت نفسها صغيرة جدًّا واستقرت في هذه النواحي. ما الدافع إلى ذلك؟ لا نعلم. لكن على أي حالٍ كان وجودها شهادة على وجود الله. إنها عيّنة مصغرة عن العوالم السماوية، حزمة من شموس عديدة.
هذا النجم الذي أصبح أرضيًّا كان معزولاً ومحجوراً عليه بنيران دائمة الإلتهاب. كان رسولاً للسماء، أبا هولٍ يفرض سلطانه على الشعب، ورعيته تبادله الاحترام والمحبة. كان يرعاهم باهتمام وينقل لهم بكل أمانة الحديث والوصايا الآتية من الأعلى، لكن ما من شيء أزليّ، فقد قال الله يومًا لأبي الهول، " شرّع أبواب موطنك لأبناء الأرض، وليقُم اتباعك تحت إشرافك وحسب وصاياك بالتبشير بكلامي وليعلِّموا الناس قوانيني. قدّم لهم النصح حتى لا ينجرفوا مع المفاسد والفجور لأنني سأختبر هؤلاء الناس الذين أحببتهم كثيرًا ".
نفّذ أبو الهول (السفنكس) ما طلبه الله منه. شرع الأبواب وبعد توصيات مؤكدة سمح لشعبه بالاختلاط بسكان الأرض واعطاهم نموذجًا عن الفضيلة لأن الإثم كان يعملُ فتكه في كل مكان. هذه الكائنات السماوية، وعلى غرار الملائكة الساقطين، كانوا قد نسوا قوانين الله، فقد أفسدهم بنو البشر، وعوضًا أن يقوموا هم بارشادهم واصلاحهم، راحوا يجارونهم في فسادهم. بذل أبو الهول جهودًا مُكثفةً ليعيدهم إلى جادة الصواب إلاّ أن نداءاته ومحاولاته ذهبت أدراج الرياح. لقد نُسِيَتْ أفراح الجنة الطاهرة.
وأبو الهول تائهٌ، حزينٌ ووحيدٌ في هذه الجنَّات الساحرة. الشموس العديدة ترسل عليه أنوارها الأحاذة والنسيم العليل يجفّفُ دموعه. قال له الله ذات يوم: "سوف أعيدك لوحدك مع نجمتك. رعاياك ليسوا أهلاً أن يروا عالمهم القديم مُجدّدًا. سوف أجفِّف هذه الأماكن فلن يبقى هناك نباتات، بل أرض فسيحة جدًا مليئة بالرمال. سوف أجعل سكانها كالحجارة دون استثناء. سيكون هذا عقاباًا قاسياً بالنسبة لهم. سيعيشون كالحجارة على مدى قرونٍ عديدة حتى يدركوا مدى قساوة قلوبهم. سوف يكتشفون جرائمهم ويدركون أنني أنزلت بهم العقاب المُستحق لهم. وأنت يا أبا الهول، كنت مخلصًا لي، لذا ستتحول إلى كوكبة من النجوم.
بكى أبو الهول وتضرّع إلى الله أن يمّن عليه بنعمةٍ: يُا إلهي، اجعلني أنا أيضًا حجرًا فيتسنّى لي البقاء بقرب رعيتي. ستكون لي نفس لغتهم وسأحثهم دائمًا على فعل الخير، وسأقبل بالتضحية وبمشاركتهم قصاصهم وتكفيرهم حتى يتمّ لهم الخلاص.
أجابه الله: "سيكون لك استحقاق أكبر ومعه ستكبر أيضًا مكافأتك يا بنيّ. لكنني أعلمك أن ألوفًا وألوفًا من السنين ستمضي قبل أن أعتقك من النير الذي سيثقل كاهلك".
وأنا راضٍ بذلك، أجاب أبو الهول.
وأضاف الله قائلاً: "ما من أحدٍ سيجتاز حدود الأشجار الباسقة التي ستُحجب عنك العيون المُتطفلّة، وبأن حيوانات كوكبك ستكون حرّسًا لك. ستعيش معك إلى حين انعتاقك. سأرسل لك انبيائي لكي يعزوك ويخففوا عنك، ولن يكون لك اتِّصال بالخارج. أنت ستكون مارد الصحراء وسيبقى سرّك مُصانًا".
وعندئذٍ هبّ هواء ساخن واختفت حديقة الاله وجفّت النباتات الخضراء، وارتفع سور عالٍ من الأشجار عازلاً هذه الناحية عمَّا عداها من العالم. وصار كل شيء إلى الزوال، وتحوّل البشر إلى حجارة وهم يصرخون يائسين، وحلّت الرمال محلّ التربة الخصبة. لكن وبعد ذلك أخذت الله شفقة بخادمه الأمين فسمح بتواجد بعض الواحات في أماكن مُختلفة، فقد قيّض للأحجار، كل واحد بدوره، أن يستعيد مؤقتًا شكله البشري حتى يُشيدوا من الحجارة التي يتخلَّصون منها صروحًا رائعة، عبارة عن أعمال نقشت عليها تواريخها بالكتابة الهيروغليفيّة، وبالكاد تمكنت تقلبات المناخ وعاديات الزمان من التأثير بها وتدميرها. ويستمر أبو الهول برعاية مملكته والسهر عليها إلى أن يتمّ التكفير عن الخطيئة، مُخاطبًا إياهم بلغةٍ خاصة لا يفهمهما الأغراب، هذه هي قصة رسولٍ من السماء قبل التضحية من أجل شعبه في الحياة كما في الموت. ويصدف في هذه الصحراء المُترامية، وعندما يثور العصف بزوابعه الرملية، أن يسمع صخب وتسمع أصوات تستدعي أبا الهول الذي يعمل على تهدئتها.
المُرسلون من عند الله يزورون أبا الهول أحيانًا، وبعد تلك السنوات من الانتظار وعدم الحركة، يسمح له الله أن يمشي قليلاً ويزور كوكبه، فيجتاز الأمواج الرملية في ضوء نجم دائم التوهج. ومثلها مثل الصحراء تباركه السماء وتشرِّفه.
هذه قصة رواها لي بصوته إعصار قدم من تلك البلاد المجهولة، وأنا لم أقم سوى بنقلها اليكم.