الندى
من أقاصيص زينة حداد
ترجمة سمير الحداد
أنت ترصع الأزهار بلؤلؤك، تقبلها ثم تجعلها تستحمُّ بعذوبتك. من أي المطارح أنت، أيها الندى؟
- أنا من بلد بعيد. أجنحتي سريعة، وبغمضة عين أحطّ حيث أريد.
كان الوقت فجرًا، والقمر الناصع بادر إلى الرحيل بسبب اقتراب الشمس الطالعة، وكان ولدٌ جالس أمام وردة يتحدث. وكانت قطرات شفافة تتوّج أوراق الوردة النديّة. كان الولد يقبّل البتلات المكسوّة بالندى ويقول:
- اروِ لي قصتك، أيها الندى!
- انظر، بات الوقت مُتأخرًا الآن، فالشمس تأمرني بالرحيل. تعالَ في الغد لكن قبل ساعة من مثل هذا الوقت. سأنتظرك في هذا المكان، ها هنا، وعندها أروي لك قصتي دون استعجال.
في الغد، أنْسَلّ الولد من سريره في الموعد المحدَّد وأسرع إلى الحديقة. كان الندى بانتظاره مُرتديًا ثوبًا طويلاً رائعًا نسجَ من حبيبات، لآلئ مضيئة وكان الشعر الأشقر يرسم هالة حول وجهه الملائكي، وله جناحًا فراشة.
ارتعش الولد أمام هذه الحورية المُتألقة ثم ابتسم، فحملته بين ذراعيها وراحت تحلِّق فوق مروج العشب الأخضر المُوشات بالزهور، وأخذت تروي بحبيباتها، اللآلئ كلّ ما يكسو الأرض من اخضرار.
- استيقظ، استيقظ! كان الندى يغنّي.
انتعشت الأشجار الذابلة، وصار العشب في المروج يرتعش فرحًا، والطيور النهمة راحت تمتصّ القطرات التي نثرت الآن على أوراق الأشجار.
بدأ الندى يفقد ثوبه الرائع شيئًا فشيئًا إذ كان يسكبه على هذا العالم.
عند الفجر لم يكن قد تبقّى له غير وجه ملائكي وجناحين. تبخر جسمه ورداؤه. وبعد أن تجرَّد من جميع حلية انطلق صديقنا على طريق العودة.
كان الولد الجاثم سعيدًا على جناحي الندى يطلب إليه بالحاح أن يسمح له بزيارة موطنه ذات يوم، فوافق الندى على ذلك.
قامت الحورية الجميلة بقطف غيمة من الفلك والتفت بها ثمَّ، في ومضة من الزمن، بلغت موطنها الذي هو نجمة مُتألقة لها شكل وردة.
واخترق الندى إحدى بتلاث هذه الوردة السحرية ودخل في فردوسٍ أزلي.
- هذا هو موطني أيها الولد، وجميع هذه الروائع هي لي. كن مهذبًا، وديعًا فيتسنى لك ذات يوم أن تأتي وتقيم معي ها هنا. أما الآن فتنعم بمشاهدة هذه المناظر الخلابة العصية عن الوصف.
وراحت الوردة تتمايل وتدور في رقص بديع بينما كانت الحورية الحسناء ترفرف وتطير من بتلة إلى إخرى.
تخيلوا كم هو ضخم هذا النجم. إنه عالم عشرون مرة أكبر من عالمنا. تخيلوا وردة ذات عشرين من البتلات تساوي كل واحدة منها أرضنا حجمًا واتساعًا، هذه الوردة الضخمة تستحم بأنوار العديد من الشموس والأقمار البراقة المُبهرة. وتنساب شلالات جذلى من الندى من ورقة إلى ورقة وتضمّخ وريدات لا عدّ لها هذا العالم بعطرها، وتسرح غزالات بيضاء وتتلهَّى في المروج المزهوهرة وترقص على أنغام ناي عذبة الألحان.
يا لله! يا لعذوبة وسحر هذه الموسيقى! إنها أصداء غناءٍ في غابة من الأشجار المُثمرة.
- والآن، قال الندى للولد، إنها ساعة العودة. وما رأيته الآن ليس سوى جزءٍ ضئيل من موطني؛ فلو رغبت برؤية كل شيء وبزيارة جميع النواحي، لَلَزمك لذلك سنوات وسنوات. ها قد بدأ زيارتك ينفد، وأنا ملزمٌ بالهبوط إلى أرضكم الفانية لأُ نعشها.
"أيتها الأزهار والطيور والصديقات، البسنني ثيابي على عجلٍ.
عندها اجتنى كل واحد من الأكسير قطرة ما لبثت أن تحولت إلى لؤلؤة. وصارت اللآلئ، الواحدة يجنب الأخرى الحلة والثوب، وراحت الطيور تنشقه بمناقيدها حول قامة الحورية التي حملت الولد المذهول ورجعت إلى الأرض وكان الوقت مُنتصف الليل.
قال الندى للصغير:
- أترى هذه اللآلئ التي أنثرها هاهنا؟ يجب أن نُسميها الندى تيمنًا باسمى وباسم أمي والنجمة الندى. أنا أعطيكم بعض الثمار من جنتي كل يوم لكي أنعش وأحيي حدائقكم الجافة. إسع لأن تنضم أليَّ في يوم من الأيام.
عندئذٍ أنزلت الحورية الولد المُستغرق في النوم بالقرب من أزهاره.
وبزغ الفجر واستيقظ الصبيّ الصغير. كانت وردة تداعب وجهه وكان الندى المُتلالئ ينسكب على خدّيه الطفوليتين.
نسي الولد رحلته السماوية وراحت شفتاه الكرزيتان تمتصان الرحيق السحري، وصرخ هذا الصغير:
إنه الندى!
لقد همست له الجنية الخفية بهذا الإسم هكذا أنا فاجئت الولد وهو يتحدث ويثرثر مع الندى في إحدى الحدائق.