النار
من أقاصيص زينة حداد
ترجمة سمير الحداد
منذ غياهب الأزمنة، الفلك مرصّع بالنجوم التي يتزايد عددها باضطراد، والغني الإلهيّ لا حدود له، ينسكب بسخاءٍ في اللامتناهيات، مُرتكزًا في القباب السماوية التي لا حصر لها. الكل يبتسم للنجوم الوليدة ويدعونها للأقامة في ديارهم الفسيحة غير المحدودة.
هذه النجوم البرّاقة المُتألقة تموضعت في السماوات الزرقاء الشفافة، كأنها بلوّرات وتركز بعضها في مدارات مُختلفة اختارها المسؤولون عنها الذين خصّوا بحكمةٍ مُقدسة.
ويسبر الله بعينه المُقدسة السماوات اللامتناهية ويمنّ على المُخلصين له والمُحببين إليه بعطايا ملكية تليق بالله وحده، وكلّ حسب استحقاقه. هو يوزع كذلك نجومًا فردوسية على أولئك الذين هم أيضاً أكثير استحقاقاً.
في أعلى سماواته، وبعيدًا عن هذه الغياب، أقام الله نجمًا ساحر الجمال وروعته ذات الجلالة تسحر جميع العوالم التي تحيط به، وحباه الله بالقوة والجمال وجميع الصفات المُقدسة ونفث فيه بعض الرؤى والوحي. هذا العالم البعيد، البعيد هو عالم غير معروف من العديد من الكواكب، والله يؤكد رغبته بإبقاء بعض الأسرار أسراراً.
هذا العالم اسمه النار، وهو مُتوّج على أكثر القمم علوًّا في الأفلاك، والله يديره ويوجهه من أماكن أكثر علوًّا وسموًا.
نارٌ مُتوهجة مُتأتية من هذا العالم تسكب بشرارات هائلة الضخامة تتشتّت وتنتشر في جميع السماوات مُتدحرجة من قبّة إلى قبّة. ألسنة اللهب هذا تعزز ظروف الحياة وتدفع بها قدمًا، وكلِّ شعلةٍ تتغلغل في كوكب من الكواكب حتى تتتحد بقاطنيه. هذه النار المُقدسة تتوهَّج في القلوب مُوحيةً بأكثر الصلاوات قُدسيّة والتي ترتفع غيومًا مُقدّسة شبيهة بنفثات البخور النقي المُتأتية من أكثر الفراديس علوية.
هذه النار التي لا يخامرها الكلل، هي عالمٌ سحري دائم الحراك ولا يعرف البطالة على الإطلاق.
هناك في العوالم البعيدة لا وجود لليل ولا للنهار ولا وجود للوقت. الكوكب "نار" يرسل لهبه أيضاً ويولّد نجومًا ويغرق عليها النور المُتألق. وتسهم شموس رائعة ذات ألوان سحرية في إضفاء الجمال على الأمكنة.
ويفرح الله ويأخذه الحبور لمعانيه مطارحه تزداد غنًى بعد غنى، وتكتسب جمالاً مُتزايدًا.
و"نار" ينعم بالسعادة الكاملة وألسنة لهبه المُتوهِّجة التي تغذيها قوة مُقدسة، تضفي على كل كوكب تألقًا رائعًا وألوانًا مُتوهجة مُتلألئة. النار موجودة على مدى كل العصور، لكن نار هذا العالم هي أمر سماوي.
جميلة هي الحياة في هذه الأماكن العَدنيّة، وقاطنوها يعيشون في غبطة فائقة دائمة. وهذا الكوكب العملاق ينعم بقواه الخاصة بقدرة الإحياء وبجعل باقي النجوم تكتسب روعةً باضفاءه علها بريقًا رائعًا، كما أنه أيضًا يولِّد شموسًا مُتعددة الألوان ويوزعها في الإمداء العديدة اللامتناهية.
البعض من السنة اللهب المُعطرة بأنواعٍ من الرحيق ذي العذوبة الفائقة، ترتفع وتسمو غيومًا نحو الكلي السمو. أزهار وورود منحوتة في النار اللاهبة ترسل عبيرها نحو الأعلى. ومن هذا اللهب تولد طيور فردوسية مُتألقة الألوان، طيور مُرقشة، براقة متلألئة. النار هي مصدر جميع الأنوار والألوان.
ويبقى العالم "نار" سرًّا عميقًا بالنسبة لجميع العوالم التي، وبحسب الوصايا الأزلية، لا حقّ لها بالعودة إلى مصادرها ولا بالدنوّ من النار المُقدسة. لكنها في كل وقت من الأوقات تنعم بهدوءٍ وصفاءٍ كبيرين وبسعادة خالدة. هذه النار هي مصدرً غنىً رائع لا ينضب.
في واحد من تلك الأيام في أزمنة غابرةٍ، سُمع ضجيج جهنمي، زلزال مشؤوم أحدث تهدّمًا هائلاً وانهيارات وعمّ الرعب والرهبة في جميع العوالم، وحلّ بها سوءٌ وتعاسة كبيرين، وانتشر الأسى والضيق في كل السموات، وخيّم الهلع في كل مكان.
يا الله، ما هو سبب هذه الكارثة؟! إن نجمة فاقدة الإيمان، كافرة، يسيرها الحسد والغيرة، ساخرة من التعاليم والأوامر الإلهية، تسللت إلى قلب النار المُقدسة كي تمارس تفوّقها وتفرض سيادتها على العوالم الأخرى.
عصيان هذه النجمة، العالم المدّعي، تسبب بحلول اللعنة الإلهية، وهبّ إعصار وحشي ماسحًا كواكب بأكملها، إعصار شرس لا تقاس بهولِه أسوأ العواصف وأسوأ الكوارث التي تحصل على أرضنا، فهي هزيلة مقارنة بما حلّ في هذه الأماكن النائية. ويتردَّد صدى المأساة في كل مكان وانفتحت هوّة هائلة راحت تبتلع النجوم وسكانها المُدانين بهذه الجزيرة.
وانصياعًا منها لأمر الكليِّ السّمو سكبت النار السنتها بكثرة في هذا الوادي السحيق الذي استحال إلى جحيم. النيران والسنتها مؤذية حارقة، وأثناء هبوطها اجتازت النار جميع العوالم السفليّة مُطلقة سهامًا مؤلمة أحرقت كل شيء على مسارها.
ونالت أرضنا من ذلك ما استحقت. والكوكب الخاطئ امّحى من الوجود وسقط زعيمه "فولكان" على الأرض جاذبًا معه السنة اللهب وانضمّ إلى رفاق له في هوّة مُرعية حيث أصبح هو قائدًا لهم.
هذه النار التي حلَّت عندنا هي نار كارثية في معظم الأحيان تحول كل شيء إلى رماد ينثره الريح. غير أن الأرضيين يفيدون من هذه النار عينها لتحسين مصائرهم. وبالرغم من خطورتها، هذه النار هي حاجة وضرورة لعيشهم هنا على هذه الأرض. ويدرك البشر، ربما، في أعماق لا وعيهم بأن للنار منشأ مُقدس. ولهذا السبب الذي يدركه بعض الشعوب في عالمنا، النار تساعد في الحصول على الراحة ثم تقوم كالماء بغسل وتطهير القذارات المُعتادة في حياتنا.
في العوالم السفلية الجحجمية، تقوم النار بالتطهير مُحرقة الخطايا والألم الذي ينتج عن ذلك، يُعيدٍ تذكير البشر بالحقيقة. غير أن النجم الرائع ما يزال موجودًا وكذلك ألسنة اللهب التي يطلقها منيرًا السماوات المُقدسة الثابتة في إيمانها، الشاكرة العلي القدير والرائعة له النعمة والعرفان على الدوام.
إلا أن "نار" في ثورة غضبه، يطلق لهبًا يُحفِّذ على التوبة والتكفير نحو الطبقات السفلية فتلامس أدنى المستويات الجحمية. ويصدف أن يتشكل بعض السنة اللهب كائنات خيالية غير "مألوفة" وحوش ربما أو شياطين مُرعبة تبتلع كل ما يصدف في طريقها.
عندما يبدي الله غيظه، يعبر عنه "نار" مرددًا اياه كالصدى مُرسلاً صواعقه الينا في الحال، فيظهر هكذا قوة ذات وجهين، العقاب والمكافأة. ألا يخبرنا الكتاب المُقدس في عهده القديم أن ثلاثة شبان ألقيوا ذات يوم في لهب مُتوهج ورفضت النار أن تتسبب لهم بأي أذىً، لأن إيمانهم العظيم كان سبب خلاصهم.
أنا أقول أكثر من ذلك:
- هؤلاء الشبان الثلاثة ينتمون إلى السماء البعيدة النائية، إلى كوكب مقدَّس إسمه "نار". نار له وجهان: السماء والجحيم. أما بالنسبة إلينا، نحن الداهشيين، النار تحرق صلواتنا وتحملها كغيوم شبيهة بنفثات البخور المتلوية وهي تتعالى نحو الآزلى الخالد.