ذات الشعر الأبيض
من أقاصيص زينه حداد
ترجمة سمير الحداد
في احدى ضياع الشمال، وكان ذلك عند الغسق راح الهواء يعصف بشدة وكانت الغيوم الشتوية تحجبٍ وجه الشمس ساعة المغيب. كان الثلج يتساقط كثيفًا على تلك الضيعة وتنوء أغصان الأشجار تحت نيره الثقيل ويمتدُّ بساطه الأبيض على أديم الأرض.
أوى القرويون إلى بيوتهم الصغيرة وأحكموا إقفال أبوابهم، فالعاصفة هوجاء والذئاب الجائعة تعوي في الجوار. ولو بقي الأهالي ساهرين تلك الليلة لتسنّى لهم رؤية مسكن ظلّ مضاءً طوال الليل في كنف سنديانة القرية العجوز.
في ذلك البيت الصغير، وفي تلك الليلة الباردة الكئيبة كان ولداً يبصر النور. ومع بزوغ الفجر سُمِعَ بكاء الوليد الجديد.
كانت بنتًا جميلة، جميلة، والحق أن هذه الكلمة ليست بكافيةٍ للتعبير عن جمالها الرائع وعن كمال قسمات وجهها واشراقته.
بشرتها بيضاء ناصعة، كإنّما الثلج قد ألبسها من ردائه رداءً. أما الأمر الشديد الغرابة هو الشعر الكثيف الذي يندر ظهوره لدى حديثي الولادة، والذي كان أشدَّ بياضًا من بشرتها.
أصيبت النساء اللواتي أخذن الطفلة في أحضانهن وأخذهن العجب لهذه الفروة البيضاء التي إن دلت على شيء فعلى التقدم بالسن والشيخوخة. وبادرت لفورهن إلى تلاوة بعض العبارات التي من شأنها باعتقادهنّ أن تبعد سوء الطالع.
وأسوأ ما في الأمر أنهنّ سمِعنَ الطفلة تصيح غاضبة: أين أنا الآن؟ فحيث كنت من قبل كان أفضل بكثير.
أصيبت الجارات اللواتي أتينَ لمساعدة الأمّ بالهلع ووضعن الطفلة على أحد المقاعد وأسرعن راجعات إلى منازلهنّ.
أخذ الوالد الحطاب ابنته ولفَّها برداءٍ ووضعها بالقرب من والدتها.
في اليوم التالي سّرّتْ في البلاد شائعة عن ولادة ساحرة ذات فروة شعر أبيض، وراحت الشائعة تنتقل على كل لسان، وكانت النمامات يتهامسن خوفًا من أن تسمعهن الجنيَّة فتنتقم منهنّ.
هل يمكن أن يتكلم الوليد الجديد؟!
وبالاختصار، مضت سنوات وأصبحت الطفلة في السادسة من العمر، وأطلق الناس عليها اسم ذات الفروة البيضاء. كان لها وجه ملاك صغير وروحًا حكيمة كالمسنين. كانت تنفر من الأولاد وألعابهم وتفضل التحدث إلى من هم أكبر سنًا، وتروي لهم قصصًا غريبة تستحوذ على أفكارهم أيامًا بلياليها.
كنت قبل وقت غير بعيد أعيش في كوخ وسط غابة، وكان زوجي حطابًا فقيرًا اسمه كارل. كان لي ولدان قويان مُفعمان بالحياة. الرجال الثلاثة الذين كنت أحبهم، قضوا ذات ليلة تاركين إياي حزنية، حانية الظهر حتى نهاية أيامي.
أيها العجائز، ألستم تذكرون شابيّن قويين، جميلين اسم أحدهما فرانك واسم الأخر جون، وكانا يقومان التسوق في قريتكم، فكوخنا لم يكن بعيدًا جدًا عن ها هنا؟
وأنت يا إيفان، الجالس بالقرب منّي، هل تتذكّر؟ ولداي كانا صديقين لك أيام الشباب، وكنت تأتي معهما غالبًا لتشرب الشاي لديّ.
ألا تتذكر كاترين الغابة كما كنت تسمّيني؟
ومرّة أحضرت معك أخاك الذي توفي في الحرب منذ ذلك الحين، وكم من مرّة جئت إليَّ في شيخوختي تقدم لي مساعدة سريّة!
وتمادت ذات الشعر الأبيض أكثر، وأخبرت إيفان بعض الأسرار التي لم يمكن على علم بها سوى كاترين الغابات.
كان إيفان يراجع ذكرياته. كانت الفتاة تتفوه بالحقيقة لأنه ما من أحد على الإطلاق كان على علم بمساعدته للمرأة العجوز. وغالباً ما كانت كاترين الغابات التي كانت لإيفان بمثابة الوالدة تستمع إلى ما يُسرُّ به إليها.
ما سَر هذه الفتاة التي تعرف العديد من الأمور التي حصلت قبل ولادتها، وتعرف وقائع لم يخبرها بها أحد؟
لماذا ذهولك يا ايفان؟ كانت تقول له. فقبل أن أصبحتُ كاترين الغابات، كنت في أميركا وكنت موسرة. هناك أدركتني الشيخوخة. أنا لا أختلق الأخبار يا إيفان، ويمكنك أن تسأل أحفادي في أميركا، وتطلب إليه أن ترى صورتي التي يحتفظون بها. في هذه الصورة، يوم كنت في أميركا، يمكنك أن تتعرف إلى كاترين العجوز.
كانت ذات الفروة البيضاء تحلم غالبًا، وشعرها الأبيض الطويل يغطي كتفيها الناحلتين.
العالم قديم، عمره آلاف السنين، كانت ذات الفروة البيضاء تقول، وأنا عمري كعمر هذا العالم وشعري الأبيض يذكِّرني بذلك.
من أين أنت أيتها الفتاة الغريبة؟ يسألها القرويون. أأنت ساحرة كهوفنا ومفاوزنا البحرية، والجبال حيث تعيش جنيّة أساطيرنا؟
كانت ذات الشعر الأبيض مُدركة لما يدور في فكرِ القرويين، وتتألم بعدم تفهمهم لها وعدم تصديقهم لما تقول كانت تلح أن يكتب ايفان إلى أميركا ويطلب الصورة التي تثبت صحة كلامها، وقدمت له العنوان حيث تقيم عائلتها وأعطته اسمها السابق وأسماء أحفادها، وهذا ما أدى بإيفان إلى النزول عند رغبة ذات الشعر الأبيض.
أرسل إيفان رسالة على العنوان البريدي المحدّد. وكانت دهشته كبيرة عندما تلقّى الرد على مراسلته من العالم الجديد، وكذلك الصورة الفوتوغرافية التي تمثل كاترين الأميركية التي هي مشابهة كل الشبه لكاترين الغابات، غير أنها بدت في الصورة في ثياب غنية وهي متزينِّة بجواهر ثمينة.
كانت ذات الشعر الأبيض تقصّ على القروييّن قصصاً قديمة. كانت تسرُّ كثيراً بالحديث عن حيواتها السابقة، معدّدة ذكرياتها عن كل حقبة.
مرة، كانت ذات الشعر الأبيض زنجيّة في أفريقيا. ومرة أخرى، منذ آلاف السنين، كانت مواطنة هندية.
وذات يوم سألها إيفان:
- لماذا لم تكوني تخبريني هذه القصص عندما كانت اسمك كاترين الغابات؟
ابتسمت ذات الشعر الأبيض وأجابت
- ذلك أنني لم أكن أعرفها في ذلك الحين، فضباب الأرض كان يعتم على ذاكرتي. لكنني عندما انتقلت من حياتي تلك لأولد ها هنا من جديد، جعلني ملاك الموت ألجُ عالم فروات الرؤوس حيث اقتطفت فروتي.
تتمتع فروات الرؤوس بالقدرة على حفظ الذاكرة ولها يعود الفضل في تذكرنا لتقمُّصاتنا، ونتذكر أيضاً الخير الذي أتيناه والشر اللذين بموجبهما ننال ثوابنا وعقابنا.
شعري الأبيض اليوم يوحي ويذكّر بعدد السنوات التي عشت خلالها على الأرض وهي أشبه ما تكون بغابةٍ كثيفة الأشجار لأنها لا تعدّ ولا تحصى.
ولدت هذه المرة وأنا، كما ترون، مُحتفظة بفروتي البيضاء، سجلْ حيواتي السابقة كلها. وإن كنت الآن فتاةً صغيرة فحسب، فنفسي عمرها آلاف السنين.
نامت الفروة البيضاء في الحديقة ذات يومٍ، فجاء بكل هدوءٍ من قام بقصّ شعرها الأبيض أثناء نومها.
لم تستيقظ الفتاة بعد ذلك أبدًا، فحياتها كانت مرتبطة بشعرها الثلجيّ البياض، وهكذا قضت ذات الشعر الأبيض وهي طفلة لكن عمرها كان منذ بداية العالم.
كانت هذه نهاية التقمص الأخير لذات الشعر الأبيض، الفتاة، اللغز الذي مرّ في عمر هذه القرية.