أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الأستاذ ياسر بدر الدين

كاتب وشاعر وخطاط لبنانيٌّ مقيمٌ في كندا. مُجاز في الحقوق من جامعة بيروت العربية، 1970. شغل عدة وظائف في المجلس النيابي اللبناني. عضو اتحاد الكتاب اللبنانيين. عضو المجلس الثقافي للبنان الجنوبي. صدرت له عدة دواوين شعرية، منها: "كتابة على حاشية الجرح" (1973)، "طيور بعد الطوفان" (1978)، "دفتر الغربة" (1999)، "وجهك والمنفى" (2001). وله أربع لوحاتِ خطٍّ عربيٍّ في "مُتحف الحضارات" بمدينة هول الكندية. سُجلت أعمالُه الأدبية والفنية في موسوعتي Who’s Who الكندية (1997) والبريطانية (2001).

 

خطواتٌ في رفقة الدكتور داهش

كتاب الروح

إن الكتابة عن الدكتور داهش (الهادي الحبيب) هي كقراءته أو الاستماع إليه، طقسُ نشوةٍ روحيةٍ. هي دخولٌ في الغرابة، وتهيُّوءٌ للمفاجأةِ والسير على جفاف الذهول!

سمعتُ عنه كثيرًا، ورسمَهُ خيالي أشكالاً غريبة، ولكني اعتدتُ أن لا أُطلقَ أحكامًا مُسبقةً على الأشياء. لم أقبلهُ ولم أرفضهُ حتى التقيتُه في منزله الرحب، في محلة القنطاري ببيروت، فأحسستُ أنني أمام رجل آخر... أن الرجل حاملُ رسالة، وأن الأمر ينطوي على حقيقة... واستمرت الزياراتُ، وكذلك المعجزات. وشهدتُ ما يُبهرُ ويُذهل ويفتح باب الهواجس والتساؤلات. ومن خلال النظرة الموضوعية، وجُرأة الاعتراف بالحق ولو كان على حساب المُسلمات والأعرافِ الموروثة، بدأت خيوط الحقيقة تتسربُ إلى نوافذ العقل والقلب كما تتسربُ قطراتُ الندى في مَسامِّ أزاهر الصباح، وتنغزلُ فجرًا من الرؤى والصُور والأحلام. وما عتَّمت أحرفُ الرسالة الروحية المضيئة أن أخذت مكانها في كتاب الروح.

كان منزل الرسالة أشبه شيءٍ بواحةٍ وريفةٍ في صحراء، أو جزيرةٍ نقيةِ الهواء والتُراب وسط بحرٍ من الصخب. كما نفيءُ إليه كلما اشتد الهجيرُ وطغى على النفوس اللهيب... إلى حضرة الروح في معبد الجمال وتحت ظلال شجر المحبة والأمان، كأن إلهةَ الفنِّ زارت المكان فامتلأت الجدران بالروائع، وازدانت الزوايا بالتُحف! وأنِّى التفتَّ تبهرك الألوان والألحان، وتنفرجُ شفاهُ الفنِّ عن لآلئ ومضحار، وأسراراٍ وأشعار.

عاشق الفنّ

كان الهادي الحبيبُ شغوفًا بالفن عروفًا بقيمته الجمالية، مدركًا أنه لغة الروح والأحاسيس، وقد وصفه بـ"الموسيقى البصرية". كان يُحسُّه نغمًا يداعبث النظر ويتسرب إلى القلب. يُرهفُ الذوق ويسمو بالنفس. وقد وفق في الحصول على مجموعةٍ كبيرةٍ من اللوحات الفنية والتماثيل لكبار الفنانين العالميين كانت نواةً لمتحفهِ الذي يُضاهي بمحتوياته وقيمته كبارَ المتاحف العالمية.

          كان الدكتور داهش عاشقًا للفن، يُقدِّر الفنانين الأصيلين، ويُميِّزُ بين الغثِّ والسمين من أعمالهم، فلا تنطلي عليه أباطيلُ العصر ومهازلُ الحداثة. زِدْ إلى تلك اقتناءهُ لوحاتٍ فنيةً من أجل قيمتها الروحية، ومستوى سيالاتها العلوية. وقد خاطبتهُ مُشيرًا إلى هذا المعنى بقولي:

          لجميل الفنون شيدت مجـــــدًا          ولفنِّ الجنون نُكسًا وعـــــارا

          ولمجدِ الجمال أعليتَ صرحًا          وعمرتَ الآمال دارًا فدـارا

          فزَهـــــــــــــــا صرحُ داهش وتجلَّى          في نيويورك للنجوم مــــــــزارا

          كنا نشعرُ في حضرته أننا في عالمٍ علويّ؛ فالآياتُ الفنية في كل مكان، وجوٌّ من الأمان يرين، وهو جالسٌ كقبسٍ من الضوء الممر الشرقي، أو متنقلاً بين الغرف، تطربُ لخطجواته الجدرانُ والمقاعدُ وسائر الأشياء، فتنطلقُ أغاريدُ لا تعيها آذانُنا الصماء، بل تسمعها القلوبُ وتحسُّ بها الأرواح. وقد تأكد لي لاحقًا أن الفن جزءٌ من رسالته السامية التي تهدفُ إلى نشر الفضيلة والخير والجمال ومحاربة الشر والفساد. وكأنه بأقواله واختياراته الفنية جاء ليقول لنا: هذا هو الفنّ.

في رفقة حزيران

لقد سرتُ في رفقة روائع الدكتور داهش الأدبية وتمتعتُ بكنوزه الفنية في رحلة النور والمعرفة، كما سرتُ برفقة حزيران ومطلع حزيران، ذكرى مولد مؤسس الداهشية. وكانت الرحلةُ محفوفةً بالشعر والعطر والصبر والسهر، كرحلةِ السندباد إلى جزائر المحار. إلا أن أجمل ما فيها اللقاء ومناجاةُ الحبيب، والإبحارُ في الورد... كان أجمل ما فيها الوفاء! وأنَّى لي أن أعثرُ عليه في سائر الشهور؟ حزيرانُ كان الجُرح المفتوحَ في شغافِ العُمر! ولطالما امتزج دمي ودمُه في صناعة الشعر ونسيج الأحلام! كان خنجرًا من الوردِ يُدْمى ويدمَى فتضوعُ الأطيابُ والألوان والآلام، وترتسم كلماتٍ وصورًا على صفحاتِ العمر والقلب!

          كان لقائي الأول للأول من حزيران في منزل الرسالة بمحلة القنطاري في بيروت. وكان احتفال ألقيت فيه كلماتٌ وأشعار. لم أكن وقتئذٍ من المشاركين، وكنتُ ما أزالُ ضيفًا جديدًا على حزيران. ولم يكن عقلي ليستوعب عمقَ القضية وعظمتها، وعُمقَ الجرح الذي سوف تُحدثهُ في جسد الكرةِ الأرضية! كنتُ مستعمًا، لكن لأشياءَ لم أكن لأسمعها من قبل. كنتُ أفاجأ في كل كلمةٍ أو فكرةٍ يطرحُها الخُطباء. لم أكن أعلم أنم مرحلةً جديدةً بدأت من عُمر الأرض، وسرى في عرقوها دمٌ جديد، وأن انقلاباتٍ أثيرةً حصلت في حياة الزُهور والطيور ومجاري الأنهارِ والأفكار! لم أكن أعلمُ بقرار الشمس والقمر والنجوم بزيادة اهتماماتها بعالمنا الكئيب. كلهم كانوا فرحين! كلهم كانوا يشعرون أنهم وُلِدوا من جديد في يوم مولِد الهادي الحبيب!

          لقد لبستُ الحالة ولبستني، وتأكد لي بقوةٍ أن ما قالهُ الخطباءُ في عيد حزيران هو قليلٌ من كثير! وبدأتُ أعيشُ مع حزيران وإليه، وارتقبُه من عام لعام لأثبته اللهف والشغف والحزن والحب والفرح بقصائد أخذ فيها سيده رمز "الحبيب".

          وهكذا كنتُ أكتبُ وأكتبُ خطًّا ونثرًا حتى يُداهمني حزيرانُ بقوارير عطوره وأزاهير أرضه وسمائه، وأغاريد طيوره ومناقيدها التي تنقدُ حبات القلوب، فتطغى عليَّ حالةٌ من الوجد ويتغير لون دمي وينسكبُ شِعرًا لحزيران وسيِّد حزيران!

          وبعد قصيدتي الأولى لحزيران عام 1967، "عودة الحبيب"، تعمق رمزُ "الحبيب" واشتدت إيحاءاته، وتوطدت العلاقةت بين شعري الحزيراني وحزيران الشاعر، وصار في كل عام يوحي إليَّ قصيدة أزفُّها للحبيب عاشقةً وامقة:

شهر الأغاريد أهلاً أنت شاعرُنا                         على قوافيـــــك خفقُ القلبِ ينتظمُ

في كلِّ عـــــــــــــــامٍ لقلبي منكَ أغنيةٌ                        يُضيءُ أحرفَهــــــــا من مُهجتي الألمُ

أزفُّها لحبيب الــــــــــــــــــــــــروح عاشقةً                         تكادُ من شوقها الأوراقُ تضطرمُ!

وفي هذه القصائد، استمر الإحساسُ بالدهشة والمفاجأة والغرابة، وطغت مشاعر الحب والشوق والابتهاج. وكثيرًا ما كان الحبيبُ مستمعًا بين الحضور، فيحلو اللقاءُ وتعذبُ المناجاة:

          يا مَن تشتاقُ لك الأعماقْ

          هل تعلمُ كيف غدا حالُ العُشاق؟

          حملوا فوق جياد الشوق

          قلوبًا أثقلها الإرهاق!

          لو تعلمُ أنا إياك عشقنا

          وبنار القلبِ كتبنا

          فاشتعلتْ بالحبِّ الأوراق!

          حين تمرُّ يُفتِّحُ زهرُ الليل

          وتُغسلُ بالنور الآفاقْ

          يتوحدُ قلبُ العتم وقلبُ النور

          ويُعقدْ بين الشمس وبين الأقمار عناق!

          وتمرُّ على قلبي

          فتُتمْتمُ للنورِ قَرنفُلةُ الحزن

          تمرُّ على عينيَّ فتعلقُ بالأحداق!

          كان حزيرانُ أبًا عطوفًا يجمعُ بين أحضانه جميع أبنائه فيفرح بهم ويفرحون به.

          كانوا يتوافدون إليه من كل مكان؛ فيلتقون ويحتفلون ويلقون الكلمات. أما بعد غياب الحبيب فأصبح يخيم على الحفل جوٌّ من الكآبة والتذكر الممزوج بالمرارة والحرقة والحزن المرير الذي تنطقُ به دموعُ الشموع وثغور الورود والكلمات.

          ثم تبرز المفارقة الأليمة، إذ إنني في كل مرةٍ أُغني فيها حزيران، وأقف لألقي القصيدة، كان سيد حزيران يتراءى لي جالسًا كعادته مبتسمًا يستمعُ إلى الشعر، ويطربُ له:

يا سيد العيد كان العيدُ مـــــــــــــلء دمي                   وأنتَ في العيد مليءُ السمع والبصرِ

تُصغي لشعري فيبكي الشعرُ من فرح                   ويزهر الحرفُ بالأفكـــــار والصــــــــــــــــــورِ

واليومَ دمعي على الأشعــــــــــــــار منهمرٌ                    والشِعرُ يبكي بدمـــــــــــــعٍ غيرِ مُنهمــــــرِ

          وفي الغُربةِ يبقى "الحبيب"، سيِّدُ حزيران، مالكَ الروح وسيدّ القلب. والإحساسُ بحبِّه وعظمته ويكبر شعرًا وشجرًا مُشتعلاً بالزهر والعطر والثمر. واسمه الحبيبُ أغنيةٌ أثيرةٌ على ألسُن الطيور والأنسام والنهور، يُرجِّعُ صداها نايُ الغروب وقيثارة الليل والسَحَر.

هتفتُ اسمكَ حتى صــــــــــــــــــار أغنيةً             في ألسُن الطيــــــــر والأنسام والنهــــــــــرِ 

غنيتُ حبك حتى غصَّ في دمــــــــه              نايي الجريحُ وسال الدمعُ من وتري

وهمتُ فيه، أمانًا عشتُ أم خطرًا              وأروعُ الحبِّ ما نحيــــــــاهُ في الخطــــــــــرِ

الأديب المُعجِز

         تعرَّفتُ إلى رجُل الروح ولا أزعمُ أنني عرفتُه، وأنى لي أن أكتَنِهَ أسراره لا سيما ما انغلقَ منها على جواهر الروح.

          في رفقتك للحبيب ولآثار الحبيب تحسُّ أنك تسيرُ مع المفاجآت والغرائب! فإذا رافقتَ شخصَه أحسستَ بالمُعجزة، وإذا رافقتَ أدبَه أحسست بالإعجاز، فأنت داائماً في حضرتهما كالمُستجيرِ من الدهشةِ بالذهول! في شخصِه تقرأُ اللُطفَ والعطفَ والنبالة والتواضُع والتضحية والطُهرَ والنقاءَ والذكاءَ وسلامةَ الذوق وحُسنَ المجالسة وعذوبة الحديث. وفي أدبهِ تقرأ الصدقَ والعُمق والغربة والغرابة والجُرأة والبساطة والفلسفة والحكمة...

في رفقةِ أدبهِ تحسُّ بالدهشة، إذ كيف لأديبٍ عاديٍّ أن يكتبَ في كل المواضيع ويُجيد؟ وكيفَ لأديبٍ لا يكتبَ بهذا العُمق، وهو على سطح بحرٍ من المسؤولات الجسام كالتي تفرضها رسالةٌ روحيةًّ؟ نحنُ نعلم أن الفن أناني، والأدب أنانيٌّ أكثر منه. فالأدب لا يطيقُ معه أحدًا. يطلب من الأديب كله، ولا يعطيه إلا بعضًا منه، وربما لا يعطيه شيئًا.

          يُنفقُ الأديبُ سنةً أو سنتين مِن عُمرِه لكتابة قصةٍ أو تأليف كتاب. وقد انفق دانتي اليغييري أكثر من عشر سنين في تاليف "جحيمه". فكيف لا نعجب إذا علمنا أن الدكتور داهش أنجزَ كتابه "الجحيم" خلال أيام معدودةٍ! وكتاب "مذكرات دينار" الذي وُصِفَ بـ"أوذيسة" القرنِ العشرين في ما يُعادلُ يومَينِ كاملين فقط! وبحضورنا نحن، كان يكتبُ القصة القصيرة خلالَ ساعةٍ واحدةٍ، تزيدُ أو تنقُص. لقد رأينا بأُمِّ العين كيفَ كانت الريشةُ تسيرُ على أويراقه واثقةً بنفسها بلا تردد ولا توقف؛ فلا شطبَ ولا حذفَ ولا إضافة أو اعادة، بل حفرٌ وتنزيلٌ وثقبُ جُمَان! والكلمةُ في أمانٍ من اللحنِ وزلاتِ القلم وهفواتِ اللسان.

          كيفَ لا نعجبُ وكتاباتُه جميعُها، منذُ سنةِ العشرين، في بداياتها المشرقة إلى آخر كتاب كتبهُ، هي في المستوى الفني والأدبي نفسه من حيث العمقُ والنضجُ والنظرة الصائبة إلى الأمور. وآراؤه ثابتةٌ لم يطرأ عليها تعديلٌ أو تبديلٌ وفقًا لمقتضياتِ الظروف في مختلف شؤون الحياة وما بعد الحياة. فكأن الزمن قد توقف بين كتابه الأول وكتابه الأخير، فلم تُشرق الشمس بينهما ولم تغب.

          لا شك بأن وراء هذا العمق والثبات في المواقف والانسجام في الآراء نفسًا رقيقةً نقية، لم تنتظر أن تصقلها التجربة، بل شفها الحُزن، وأذكاها الألمُ والإلهام، وزودها الروحُ خيرَ الزاد.

أكثر من مئة لؤلؤةٍ داهشية

في محراب أدب الهادي الحبيب تأخذك المفاجأة وتنهمرُ عليك مشاعرُ الدهشة والرهبة والخشوع؛ إذْ إنك أمام الكلمة كما أراد لها الله في البدء أن تكون. كاتبٌ يكتبُ ويجيدُ في كل المواضيع. وضع أكثر من مئة كتاب، تُرجمَ بعضها إلى لُغاتٍ مختلفة، وتُعرضُ في المعارض العربية والعالمية. أدبٌ خارجٌ عن الأعراف المألوفة في الكتابة، ومقاييس الناس ومُعتقداتهم. أدبُ ثورةٍ وتغييرٍ وصدقٍ في التعبير والعباراة وتشخيص الداء ووصف الدواء. أدبٌ لا يمكننا إدراجُه في مكتبات المدارس الأدبية المعروفة من كلاسيكية ورومانسية ورمزية وسواها. إنه عُصارةُ قلبٍ حطمتهُ الآلام، ونفسٍ نقيةٍ شفيفةٍ برقة النسم. أدبٌ يجمعُ بين ثقافةٍ بشريةٍ واسعةٍ وإلهام روحي مقدس. فمن الغبن أن ننظر إليه ونحكمَ عليه كما ننظرُ ونحكمُ على سواه. إننا بحاجةٍ إلى أدواتٍ جديدةٍ للتحليل والتعليل، ومزيدٍ من الأضواءِ نُسلطها على مخابئه وروائعه، وعلى شخصية الكاتب ودوافعه الإنسانية النبيلة، وأحساسه بالمسؤولية الجسيمة المُترتبة على استعماله الكلمة. ولن يصعبَ علينا ساعتذاك رؤيتها بين يديه سلاحًا وغذاءً وشفاءً ومشكاةَ نورٍ تتوقَّدُ في هذا الظلام.

          أسفارٌ خالدةٌ تطرقُ كل الأبواب وتتكلم بكل المواضيع وهدفُها واحدٌ وهو سعادةُ الإنسان والسمُّو به عن تفاهة الدنيا وحقارة المادة. لآلئُ مختلفة التوهُج والبريق، ولكن يجمعُها النقاء وتربطُ بينها رتائمُ الروح. أسفارٌ سِرتُ برفقتها زمنًا فاسرتني بخيوط شِباكها العذبة، وخطفتني كجنيِة البحر إلى عمالها المسحور حيثُ عشتُ معها بعيدًا عن ضجيج البرِّ وصخب الحياة. وهناك بين أشجا المرجان والمحار واليشبِ البحري وعرائشِ اللؤلؤ، شرتبُ كأس محبتها حتى الُثمالة.

لقد سعدتُ برفقة الحبيب وأسفارِه والفُرص الوردية التي وفرها لي بخط بعضها بريشتي. فقد أتيح لي أن أتلمس عن قُربٍ جمالاتها، وأنعم بفيئها ودفئا. كانت أحاسيس حيالها كأحاسيس الطفل في مخزن اللعب، أو أحاسيس الناسك المُتعبد في هيكل الطبيعة أوانَ صلاةِ الصباح. كنتُ أخشى أن لا أوفر لها الشكل الذي يليقُ بعمقها وسمُموها. فطالما حَبستُ الأنفاسَ وجلَوتُ النفسَ والأحاسيسَ تهيؤًا لرحلةِ العَطر والنور والتعب والجميل.

                   

رحلاتُ الحبيب

أمَّا أسفارُ الهادي الحبيب حول العالم فقد انتظمت تحت عنوان "الرحلاتُ الداهشية حول الكُرة الأرضية"، وشملت معظم بلدان العالم، ورسمت صورةً بارزةً لأكثر مظاهر الحياة في هذه البلدان وطبيعتها وطبائع الناس فيها.

لقد جوَّل الهادي الحبيب في الأرض شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وعاد منها بخير فير. وكانت هديتهُ لنا ولخزانة الأدب العربي والعالمي هذا السِفَر الأدبيَّ الثمين، سلسلة "الرحلات الداهشية" في اثنين وعشرين مُجلدًا جعلها مسرحًا لأفكاره، ومنبرًا لتعاليمه وتوجيهاته، ومتنفسًا لأحاسيسه المشبعة بالمحبة والفضيلة والخير والصلاح. كان يُصور ويكشف ويصحح؛ وكنا نشعرُ بحقٍّ أنه من خلال هذه الرحلات ينفذ مهمة روحية مقدسة، لا سيما أنه قام بكثير منها تحت وطأة الألم، وفي حالةٍ يستحيلُ على مَن يعانيها أن يتحمل مشاقَّ السفر ووعثاءه، أو حتى يقوم بأي عمل... كان يصطحب معه جراحَه وآلامه الجسدية والنفسية أنى حلَّ أو ذهب.

كما في سائر أعماله، لم يهدف الدكتور داهش من وراء رحلاته إلى الاستمتاع والراحة، حتى الكتابة لم تكنه لديه هدفًا بحد ذاتها، وإنما وسيلةٌ لاكتشاف الحقيقة. وكثيرًا ما كان يصرخ أن :"ليس من يكتبُ للهو كمن يكتب للحقيقة".

وقد كُتِبَ لي أن ألتقيه خلال رحلاته مرتين: مرة في ليبيا عام 1971، ومرة في الولايات المتحدة الأميركية عام 1981.

في رفقة الحبيب تحس أنك في عالم آخر... تتحول إلى غمامة، قدماك لا يطآن الأرض، تحلقُ كطائر، حتى وإن لم تكلمهُ أو يكلمك. كن معه فقط، وهذا يكفي.

لا ديمومة لشيء

وهكذا سعِدتُ برفقة الهادي الحبيب زمنًا غير قصير، ونعمتُ بلطفهِ وعطفه وحنانه ورقةِ كلامه، ووضوح تعاليمه وأحكامه. كنتُ أراهُ مبتسمًا كالصباح على رغم ما يعتملُ في قلبه من أحزان، وهادئًا على رغم اختلاج البراكين في داخله. كان معنا في كل شيء، لا تفوته صغيرة أو كبيرة. لا يتهاونُ في إحقاق الحق ويدين المخطئ ولو كان له أقرب المقربين. كان معنا بأفكاره وأحاسيسه وكل جوارحه، ومع ذلك كنتُ أُحسُّ أنه يحلقُ في عوالمَ بعيدة. كان بعيدًا عنا كالشمس، لكنه قريبٌ منا كأشعتها. وكانت أيامنا في رفقته أجمل أيام العمر! ولكن لا دوام لشيءٍ في هذه الفانية؛ أتانا خبرُ غيابه الأخير، وكان على سفر، فبكيتُه ورثيتُه.

          وذهبتُ بعد حينٍ لزيارته في مقر غيابِه، ذاتَ خريفٍ رماديٍّ جريح، تملأ أغصانَ شجرهِ وجسدهِ الأوراقُ المُصفرَّةُ والمُدامَّاة. كان الخريف كقلبي حزينًا ودامعًا:

          عُدتُ إليه بعدما تململتْ

          وأورقَت في مُهجتي

أغصانُ حُزنيّ الوَريف

قابلتُه... قبلتُه... عانقتُه...

بلاطة محاطةً بالزهرِ والمَطرْ

وورق الخريف!

كذب الموت

وفي ذكرى غيابه، عُدتُ لزيارته في مكان نومه الأخير، وخاطبته قائلاً:

أيهـــــــــــــــــا النائم الحبيبُ سلامـــــــــا                 قر عينــــــــــــــــــا فقد بلغت المرامــــــــــــــــــا

وانتهت رحلةُ العـــــــــذاب بأرضِ                تقتــــــــــــــــــلُ الملهميــــــــــــن والإلهامـــــــــــــــا

ها هو الموتُ من عشقتَ فغرد                فرحــــــــــــــةً يا حبيبُ، رف هُيامــــــــــا

رائــــــــعٌ أنت في الممـــــــــاتِ جميلٌ                 مثلمــــــــــــا كنتَ في الحياةِ تمامـــــــــــــــــــا

أيهــــــــــــــــا العابــــــــــــــرون لا ترهقوهُ                  خففوا الوطء، واحبسوا الأنساما

أيهــــــــا الساهرون لا توقظـــــــــــوهُ                  لم ينــــــــم في الحيــــــــــــــاة إلا لِمامــــــــــــــــا

هــــــدأ النبض واستراح فــــــــــــــؤادٌ                  ذاب في الحـــــــــــق صبوةً وغرامـــــــــــــــًا

يا عروسَ الربيعِ ضُمِّي حبيبي                   واغمُري القَبرَ ليلكـــــــــــــــــا وخُزامـــي

وترفقــــــــــــنَ، يــــــــــــــــــا ورودٌ بقلبي                   في جــــــوارِ الحبيبِ قلبي أقامـــــــــــــــــا

كذبَ الموتُ لم ينَلْ من حبيبي                 إنَّهُ في السمـــــاءِ يعلـــــــــو مقامــــــــــــــًا

نمْ قريرًا إلى جـــــــــــوارِ إلـــــــــــــــــــــــــهٍ                   أيُّها النائـــــــمُ الحبيبُ، سلامـــــــــــــــــا

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.