الأستاذ يوسف عبد الصمد
شاعرٌ لبنانيٌ مقيم في الولايات المتحدة. مُجازٌ في اللغة العربية وآدابها من جامعة بيروت العربية. شاركَ في عدة نشاطاتٍ ثقافية في نويورك، واشترك في تأسيس "مركز الحوار العربي" بواشنطن. في العام 2004 التقى كوكبةً من الشعراء والأدباء في نيويورك حيث أعادوا إحياء "الرابطة القلمية" بتأسيس جمعيةٍ ثقافية أُطلِق عليها اسم "الرابطة القلمية" بتأسيس جمعيةٍ ثقافية أُطلِق عليها اسم "الرابطة القلمية الجديدة"؛ وكان عميدها. عُيِّن عام 2008 من قِبَل حاكم ولاية نيوجرزي عضوًا ف "مفوضية التراث العربية الأميركية". من مؤلفاته "إلى الأول من الأول" و"السيف والسوسن" و"باب المدينة".
تعرفي على عالم الدكتور داهش
عندما ملكتُ القدرة على القراءة في الصفوف الإبتدائية، أصبحت رغبتي في الكتاب أكثر منها في وجبات الطعام. لم تكن شهيتي إلى المعرفة آنذاك تعرفُ الشبع. وكنتُ إذا ما وقعت عيني عل ورقةٍ مطبوعةٍ أقرأُها بشغفٍ كبير.
يومذاك، لم يكن في ضيعتي، رأس المتن، أو في المدرسة أيةُ مكتبةٍ تسدُّ جوعَ رغبتنا للقراءة. وكنتُ أغبطُ اصحاب المكتبات القليلين على مكتباتهم أكثر مما أغبطُ أصحابَ القصور والدُّور على ثرائهم. ولقد كانت مكتبةُ بيتنا فقيرةً للغاية، ليس فيها سوى بضعةِ كتبٍ دينيةٍ وأدبية وأعدادٍ مختلفة من مجلة "الأدب الشعبي".
أذكرُ أن أوَّل كتابٍ قرأتُه من خارج هذه المجموعة كان كتابَ "لصوص الغاب" أو "شارل وإميلي للشاعر الألمانيِّ شيللر؛ وكان قد أهداه إليَّ أُستاذي الأول الذي توسم فيَّ باكرًا دلائلَ الشاعر. أَكببتُ أقرأ الكتاب وأقرأُه إلى أن أتيتُ على فواصله ونقاطه، واستظهرتُه كلُّه تقريبًا.
وفي بيت أحد أنسبائنا وقع نظري على كتابٍ بلا غلافٍ ولا عنوان، فسألتُه أن يأذن لي به، فأذن. فوجدتُ فيه مادةً جديدةً وأُسلوبصا مختلفاً عن الكتبِ التي سبقَ أن قرأتُها.
سألتُ ابن خالتي: "لِمَن الكتاب؟" فأجابني: "إنَّه للدكتور داهش". فسألتُه: "مَن هو الدكتور داهش؟" فأجابني: "رجلٌ يُقالُ إنه فاق البشر بقدرته الروحية، وقد أُعدِم في إيران. وهذا الكتاب محظورٌ، ولذلك نزعنا غلافَه مخافةَ أن يعرفَ به أحدٌ، فيُسبب لنا الأذى". أخذتني الدهشة، وداخلني بعضث الخوف، وازدادتْ رغبتي فيه وفي معرفة المزيد عن الدكتور داهش. ثم تذكرتُ أنَّ في بيتنا كتبًا محظورةً، وأن كاتبها كان قد أُعدم، هو أيضاً، رميًا بالرصاص منذ سنواتٍ من قِبَل الدولة اللبنانية، وأبي يخافُ أن يعرفَ أحدٌ بهذه الكتب. فازدادت حيرتي في الأمور، وفضولي لمعرفة الأسباب.
سألت أبي عن الدكتور داهش، فقال لي: "أنا لا أعرف الشيء الكثير عنه. جلُّ ما أعرفُه أنه أُعدم في غيران. وقد أُشيع بأنَّه ساحرٌ، لكن معرفتي ببعض أتباعه كالخواجا دانييل أُوليفر والفيلسوف يوسف الحاج والشاعر حليم دمُّوس تجعلُني أشكُّ في أن الرجل كان ساحرًا، بل كان رجلاً قويًّا. قد يكون أعدِم لاسبابٍ نجهلُها كما أُعدِم الزعيم أنطون سعاده. والدكتور داهش، وفقًا لشما هو معروفٌ عنه عند بعض الشيوخ في رأس المتن، ميالٌ إلى الأمور الروحية. وكما إن للعقل عندنا الاحترام والتقدير، فإن للروح قُدسيتها، ورجال ديننا يُدعون "روحانيين" لأنهم يميلون غلى الروح، ويُقاومون رغائبَ الجسد. وفضلاً عن ذلك، فالدكتور داهش يؤمنُ بالتقمُّص كما نُؤمن به نحن. إنَّ للرجل وسلوكيته مقامًا كبيرًا عندنا؛ رحمه الله".
ومرَّت الأيام، فاتسع أُفقُ معرفتي واطلاعي، وظهرت ميولي القوية إلى الشعر والكتابة فجالستُ الشعراءَ والمتأدبين من أهل عصري، وكان فارس سعد أحدهم. كان شاعرًا يقيم في رأس المتن، ولا يرغب كثيراً في مخالطة الناس؛ فهو منصرفاً لشعره ولاكتشاف نفسه. لكنه وجد فيَّ جليسًا جيد الإصغاء وشابًا مُكبًا على العلم والأدب، فاختارني بأن أكون جليسه، و"الرأسمتني" الوحيد تقريبًا الذي يستقبلُه في بيته، فازدادت المعرفة، وتوثقت الصداقة، وطالت اللقاءت، فتعلمت منه كثيرًا عن الشعر والأدب والحياة.
كان يقرأ على مسمعي كل ما كان يكتب قبل نشره في مجلة "الأديب" البيروتية لصاحبها ألبير أديب. وذات يوم تلا أمامي قصيدة ما زلتُ أتذكرُ من أبياتها هذين البيتين:
ملـــــَّ قلبي من الضلالِ قدَعْـــــــــــــــــــــهُ في حمى اللَّه يسترِدُّ أمانَــــــــهْ
قد شككْتُم بعالضم الروحِ قِدمًا فأَخذتمْ من داهشٍ برهانَهْ
وبعد أن فرَغَ من القراءة، أثنيتُ على إنسانيةِ ما سمعتُ منه، ثمَّ سألتهُ:
"داهش... تعني الدكتور داهش؟"
أجاب: "نعم، الدكتور داهش الذي أدهش كثيرين من الناس، ومنهم صديقايَ عبد الله العلايلي وحليم دمُّوس، والخواجا أُوليفر أيضًا. ويَروُون لي خوارقَ اجترحَها أمامهم بكلِّ صدقٍ وتأكيد. ولا شك في ذلك لأنهم رأوا وشاهدوا ولمسوا عجائبه عدة مراتٍ، كما يقولون. وأنا من وحي ما سمعتُ عنه كتبتُ هذه القصية. وقد أوحى لي أيضًا هذين البيتين من قصيدةٍ أُخرى، وهما:
لا تعجبنْ أن تغولَ الأرضُ ذا قلَم رأته يفضحُ فيها الجهلَ والكذبــــــــا
حتى السماء، فقد تغتالُ نابغــــــــــــــةً خافته يهتكُ عن أسرارِها الحُجُبا"
واستطردنا في الحديث عنه، وكنا نأتي على ذكره في السهرات الطوال. ثم انتسبتُ إلى كليتي الحقوق والآداب في الجامعة اللبنانية، وكنتُ دائمًا أتمنى أن أعرفَ المزيد، لكنَّ مصادرَ العِلم لم تكنْ متوافرة. وأذكرُ، في جُملة ما أذكر، أنني خلال عملي في "بنك بيروت والبلاد العربية" (الإدارة العامة) – وكان يقوم في شارع مار منصور المتصِل بـ"الخندق الغميق" في بيروت – كنتُ أتردَّدُ إلى صالونٍ للحلاقة مجاورٍ، صاحبُه شاميٌّ لطيفلإ اسمهُ أبو يحيى عبد الله. كان الصالونُ مُلتقى كثيرين من موفظفي مؤسسات المنطقة، وكان عبد الله محدثًا ظريفًا يجعلُك لا تَملُّه ولا تستطيعُ أن تغيبَ عنه طويلاً. ومرةً دخلتُ عليه كعادتي وكان صالونُه يعجُّ بالزبائن الأصدقاء، وكان الصمتُ، على غير العادة، سيد الموقف وكأنما الطيرُ علا رؤوسَ الجميع. حييتُ فرد عبدالله التحية بحرارةِ صوته المعهودة، ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ بعض الشيء. شعرتُ أن في المكان أمرًا غريبًا، فسكتُّ كسائر الناس. ثم نظرتُ في المرآة لارى وجه الرجل الجالس على كرسي الحلاقة، فكان مهيبًا بسيطًا عميقًا: وكان يرتدي سترةً زرقاء كُحلية. وما إن فرغَ عبد الله من تشذيب شعره حتى نقده أجره وانصرف. عادت الحياة إلى الصالون تدريجيًا، فسالتُ عبدالله عن الرجل مَن يكون، فأجاب: "إنه الدكتور داهش." فقلتُ له: "لماذا لم تُعرفني به؟" وهممتُ في إثره، فوجدتُه قد تجاوز مسافةً غير قصيرةن فتهيبتُ ولم أتبع خطواته.
في كلية الحقوق ربطتني صداقةٌ قوية بزميلٍ لي كان يقصدُ، أحيانًا، من أجل المعالجة، طبيبًا بارعًا لطيفَ الحديث مُحبب الحضور اسمُه الدكتور جورج خبصا. رافقتُه مرةً إلى عيادته، فاكتشفتُ أنه داهشيٌّ. ومع أن زيارة الأطباء لا تطولُ بحُكم مهنتهم، فقد استطعتُ أن أعرفَ منه الشيء الكثير عن قوة الدكتور داهش الروحية، وعن قصته في عهد الرئيس اللبناني الأسبق بشارة الخوري، وقصة إعدامه في إيران، وبعض ما اجترح من معجزاتٍ أمام الدكتور خبصا. أضفتُ ذلك إلى المعلومات التي كنتُ قد جمعتُها من قبل، فشكلتْ لي صورةً بارزة المعالم. لكن انشغالي، آنذاك، بالدرس والشعر والعمل جعلني "أتكسلنُ" بالتعرفُ إليه.
في كليَّة الآداب كان أحدَ أساتذتِنا الدكتور كمال الحاج، ابنُ يوسف الحاج الداهشيّ. كانتْ له نظريَّاتٌ فلسفية لبنانية يُروِّجُ لها في حصَصِ الدراسة، ويتحدث عنها في اللقاءات الفلسفية ونظرياته المُستنبطة من عدة فلسفات. دعاني في أحد الأيام، مع أحد الزملاء المهتمين بآرائه، إلى بيته الذي كان قربَ "المُتحفَ الوطني" في مدينة بيروت. ذهبنا لزيارته، فتناولنا القهوة، وتجاذبنا أطراف الأحاديث. كان رجلاً طيبًا. سألته عن معرفته بالدكتور داهش، فتكلم عنه باختصار. لم يُعلق كثيرًا، ولم يكن من السهل دفعُه إلى الاعتراف بحقيقة ما جاء به مؤسس الداهشية. كان، في كل مرةٍ نقتربُ من الجواب، يتخلص بإدخال الحديث عن آرائه هو. سألتُه عن مقالٍ كان قد نشره في مجلة "المجلة" منذ سنين عن فلسفة أنطون سعاده يُبينُ فيه أنه (أي سعاده) وضعَ فلسفةً متماسكةً كالبناء المُوطَّد، فحاولَ أن يُفسِّرَ لنا كيف أنَّ النظريات الفلسفية تتغير بعامل الزمن والمُتغيرات الاجتماعية أحيانًا. أدركتُ عندئذٍ أنه أصبحَ لا يأبه إلا لنظرياته الفلسفية التي وضعَها. غادرنا منزله مكرمين، لكن مشتتي الأفكار من غير أن يشفي غليل أسئلتنا عن الدكتور داهش وعن أنطون سعاده.
في عام 1969 غادرتُ لبنانَ إلى الولايات المتحدة الأميركية من أجل الدراسة. كانت السنواتُ الأولى من الاغتراب مملوءةً بالصراع الداخلي لإثبات الهوية العربية، ومملوءةً أيضًا بالجهاد في سبيل العيش والتعلُّم. وبوجودي في نيويورك التقيتُ كثيرين من أصحاب الهُويات المختلفة، ولقِيتُ ضروباً شتى من الممارسات والمضارَبات، فاكتسبتُ خبرةً جديدةً، وتعلمتُ ما لا يُمكن أن يتعلمه إنسان في أيِّ مجتمعٍ آخر.
فنيويورك مدينةُ المُضاربات، وهي مصهرُ ثقافاتٍ وحضاراتٍ كونية كثيرة.
في السنوات الأولى لم تكن الاتصالات الهاتفية ميسورة، لا هنا ولا هنالك في الوطن الأول. لذا كانت الرسائلُ هي المتنفس الأفضل لاستمرار العلاقات مع الأصدقاء القدامى. وكانت العودةُ، بين الفينة والأخرى، إلى الوطن تًثوس من الصلات القديمة. وبحكم ظروف العمل الذي أصبح الهم الوحيد عندي، بعد أن قررت تعليق الدراسة إلى أن تتحسن الأحوال، كان عليَّ أيضًا أن أُقِلَ باب الشعر لكي أعود إليه بعد أن يصبح عندي من المال ما يَحمي حريتي ويُعطيني الوقتَ الكافي للتأمُّل والتفكير والكتابة.
كتبتُ لإحدى الصديقات التي ظلت تُراسلُني باستمرار وتسألني عن جديدي،
وهي شِبهُ متيقنةٍ من أن جمعَ المال سيُنسيني كتابة الشعر. كتبتُ لها هذاه الأبيات:
مضى زَمَنُ الحب الذي تعرفينــــه فنحنُ هنا قومٌ نعيشُ بـــــــــــــــلا حبِّ
فلا زمنُ الذكرى بمستعذَبس لنا ولا وقتَ للتفكير في موعدٍ صعبِ
نعيشُ كآلات الحسابِ عقولنــــا وأفكارُنا في طرحِ أمرٍ وفي ضــــــــــربِ
وبالرغم من كثرة المعارف استطعتُ أن أجدَ لنفسي مجموعةً متأدبة نلتقي معًا كلَّ أسبوعٍ تقريبًا، نستعيد أيام لبنان، نتذاكرُ الشعر، ونعتقدُ جلساتِ الذكر لماضٍ جميل، ونقيمُ حفلاتٍ الأُنس والسمر مع كل ما لذَّ وطاب من مأكل ومشربٍ، ومن موسيقى وغناء|. ولا أنسى أن تلك الأيام كانت من أغنى الأوقات عوبةً وحنينًا في المهجر صنعنا بها ذكرياتٍ لا تُنسى غلى آخر العمر.
بعد مرورِ سنواتٍ ظننتُ أن الدكتور داهش قد أصبح في عداد المنسيين الذين طوضت الايام والسنون أسماءهم، أُولئك الذين يبرزون في زمنٍ من الأزمان ثم يتوارَون إلى غير ما رجعة.
واتفق أ، كنتُ على معرفةٍ وثيقةٍ بمُقاولٍ من كبار المقاولين أخبرني أنه يبحثُ عن عقارٍ من أجل بناء متحفٍ ومركزٍ ثقافي يعتزمُ إقامتهما مجموعةٌ هم من اللبنانيين الداهشيين. سألته باستغراب: "مجموعةٌ من الداهشيين، وفي نيويورك!" أجاب: "نعم." قلتُ: "هذا شيءٌ جميلٌ وعجيب." سألتُه هل يمكنُ أن يجمعني بأحدهم، لأني راغبٌ في معرفة المزيد عن هذه المجموعة. وبعد أسابيع جمعني بأحدهم؛ وكان لقاؤنا الذي دام قُرابةَ الساعة في أحد مطاعم "آي أَنْد إس بلازا، وقد عرفتُ خلاله شيئاً عن نشاطاتهم المرتقبة. لستُ أذكرُ اسم الرجل الذي اجتمعتُ إليه، ولعلَّه إذا قرأ مقالي يتذكر.
وبعد أن عرفتُ المزيد عن نشاطهم في نيويورك، تذكرتُ القول المأثور: "ليس من نبيٍّ مكرَّمٍ في وطنه." الدكتور داهش الذي لُوحِق وحُورب وأُشيع عنه ما أُشيع من التخرصات والافتراءات يُقام له هنا مركزٌ ثقافيٌّ مَرموق. ما أتعس الأمة التي ترجمُ أولياءها وتطرد مباركيها وتقتلُ أنبياءها، ثم تعود فتبكي وتندم عليهم حيثُ لا ينفع الندم والبكاء.
وشيئًا فشيئًا عاودتُ التعرف إلى الداهشية والداهشيين. وكان لأحد الدبلوماسيين العرب المقيمين في نيويورك الفضلُ لكبير بلَمِّ شمل نُخبةٍ من المفكرين والمتأدبين والمُشتغلين بالفن، من عرَبٍ وأجانب، في دارته، وبعث روح التراث فيهم؛ وكان بينهم بعضُ الداهشيين من أكادميين وموهوبين ودبلوماسيين. ولو كنتُ أعرفُ أن الصديق ياسر بدر الدين الذي يُقيم في كندا هو من الداهشيين، وقد كانت لنا في زمان الصِّبا، معه ومع بعض الأصدقاء صولاتٌ وجولاتٌ في ميادين الأدب والشعر، والسهراتُ الحميمة شأن المتصوِّفة في العصر العباسيِّ؛ لو كنتُ أعرفُ ذلك، لكان كفاني مؤونةَ الأسئلة الكثيرة.
ولا يسعُني هنا إلا أن أذكر بعض الإنجازات الثقافية الداهشية في نيويورك، ومنها "صوتُ داهش" المجلة الأنيقة الرصينة التي قلما تجدُ في مقالاتها غلطةً مطبعيةً واحدة كما هو الحال في سائر المجلات، ومكتبة "تراث داهش" الغنية الآخذة بالنمو في وسط مدينة نيويورك. ومن تلك الإنجازات "مُتحف داهش" المدهِش الذي حَفظَت محتوياته النفيسة السيدة مرفت زاهد وكريمتاها أميرة وهدى، والذي كان "للرابطة القلمية الجديدة" نعمةُ استخدام مسرحِه لإقامة الحفلات التراثية والأُمسيات الشعرية والفكرية التي استقدمت إلى حفلاتها الخمس أكثر من ألفي مشاهدٍ من المغتربين المميزين.
نحنُ عربَ أميركا بأغلبيتنا، مهما طالتْ إقامتُنا فيها ومهما بلغنا من المعارف والوظائف، نظلُّ نخاطبُ الأمريكيين بالعربية، ونخاطبُ العربَ بالإنكليزية، فلا الأجانبُ يفهمون ولا العرب يفقهون، فنبقى مُتقوقعين في معارفنا وأنفُسنا لا نتعلَّمُ لغةَ المخاطبة الصحيحة حتى نُفصِحَ بواسطتها عمَّا في خبايا أنفسنا وعقولنا ولذلك تذهبُ أحاديثُنا ومقالاتنا التي لا تنتهي أدراجَ الرياح.
أمَّا أُسلوبُ المخاطبة عند أصحاب "المتحف الداهشي" فكان مختلفًا تمامًا عن سواه فلقد أٌقيم في أهمِّ منطقةٍ سياحيةٍ وحضارية من قلب المدينة. وعندما تدخلُهتشعرُ بأنك في مؤسسةٍ أميركية من حيث الشكلُ والأداء، وشرقيةٍ من حيث المضمون، تشدُّ إلى داخله، شهريصا آلاف السياح الساعين خلف الثقافة والمعرفة. فمن متجرٍ مملوءٍ كالرمانة بالبضائع والتُحف الشرقية، إلى مطعم شرقي الألوان غربيها معًا، إلى صالةٍ حديثة تتسع لقُرابة مئتي جالسٍ حول المسرح الحديث بتجهيزاته الضوئية والإلكترونية والصوتية. أما اللوحات المعلقة على الجدران والمنحوتاتُ الواقفة في الوسط، فإن دلت على شيءٍ فإنما تدلُّ على سعة العقل الداهشي وبثعدِ نظَرِه ورُقيِّ اهتماماته، في الوقت الذي كان اقيمون فيه على ثقافتنا وحياتنا غارقين في التعسف والمكر والجهل والفساد، يضطهدون العباقرة والأفذاذ من أهل أثمتهم أمثال الدكتور داهش وأنطون سعادَه وغيرِهما.
أُريد أن أقولَ وأؤكدالقول إن اللغة الكونية التي استعملها الدكتور داهش في البيان، إلى جانب قُوته الروحية، كانت لغة الفن على أنواعه، اللغة التي بها تتعارف الناس والقبائل، وتزول الفروقُ والحدود بين الأديان وبين المجتمعات جميعها. وبعد اطلاعي على فكر الرجل وأبعادِه الإنسانية عن كثب، اصبحَت الخوارقُ والمعجزات التي يُقال إنه قام بها لا تزيدُ ولا تُنقِص من قيمته الفكرية والإنسانيةن كما كانت الحال عند السيد المسيح الذي جاء من أجل رسالته لا من أجل العجائب التي اضطرَّ لأن يُظهرها للبُسطاء لمعرفة تفوُّقه وعلو قدره وقُدرته. وعلى الجُملة، أستطيعُ أن أختصر الدكتور داهش من خلال قراءتي له بما يلي:
* تحمَّل أذى بعضِ الناس ولم يُؤذِ أحدًا منهم.
* ما جاء لكي ينقض، بل ليُكمِلَ ويجمعَ بين الأديان ويُبينَ ما اختلفوا فيه، اأمر الذي يُفضي إلى الحقيقة الكلية الواحدة.
*جاء ليضبطَ الخلل القائم بين عالَم المادة وعالَم الروح في كونٍ محكومٍ بالجسدية وبما للجسد من رغائبَ ومطامع.
*بين إعدامه في إيران وظهوره بعد ذلك في مكانٍ آخر، حل عقدة (وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبِّه لهم) كما ورد في القرآن الكريم (النساء: 157).
وأخيرًا، كما أشار السيد المسيح: لو بقي شخصٌ واحدٌ يتكلم بما جئتُ من أجله، فلن تموتَ رسالتي. ولن تموتَ رسالةُ الدكتور داهش الإنسانية، ما دام هناك كثيرون من الناس الطيبين الخلوقين المدركين يحملون رسالته. وإن دار النشر والمُتحف بمحتوياته القيمة لدليلٌ قاطعٌ على استمرار الرسالة. وإني أقول للذين لمسوا ورأوا، فآمنوا، أقول لهم قول الناصري: "أنتم رأيتُم فآمنتُم، ولكن طوبى للذين آمنوا ولم يَروا".