أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الأستاذ علي رفعت مهدي

كاتبٌ لبنانيّ. حائز على شهادة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية. من مؤلفاته. "الاتجاه الروحي في شعر العلامة السيد محمد حسين فضل الله" (2004)، "تقوى الصوم" (2005)، "مطارحاتٌ في الشعر والفن والأدب" (2006)، "معرفة الله في الفكر الإسلامي" (مخطوط). وله عشراتُ المقالات الشعرية والسياسية والأدبية في الصحف والمجلات.

 

الداهشية: نداءُ الفكر والحوارِ والروح

الحديثُ عن الفكر حديثُ شيِّق وغنيّ وممتع.

إنه حديثُ انفتاح العقل على العقل، والروحِ على الروح، والإنسانِ على الإنسان، والحجة على الحجة، والدليل على الدليل، والمنطق على المنطق.

والحديثُ عن الفكر عسيرٌ وشاقٌ وعصيٌّ، وربما قاسٍ!

عسيرٌ لأن الغوص في رحاب الحقيقة يحتاج إلى مهارةٍ ودقَّةٍ وموضوعية.

وشاقٌّ لأن الفكرَ إن لم يُتبع ويُرفَق بالحوار، فإنه يتحول إلى ملاكمةٍ قد يسجلُ فيه تقدم في بعض النقاط، ولكن لا ضربةٌ قاضيةٌ فيه بل قمعٌ واضطهادٌ وتسلط وجوز.

وعصيٌّ لأن الحقائق الكلية هي بيد الله تعالى و"الناس أعداء ما جهلوا".

وقاسٍ لأن الفكر يتحول إلى تعصب وتزمُتٍ وتعنُّت، إن لم يقبل النقاش، والجدال، والحوار، والمواجهة، وإن لم يفتح صدرَه للرأي الآخَر الموافقِ له أو المعارض.

بهذه الروحية، يمكننا أن نطلقَ بحثنا.

وبهذه الخصوصية، يمكننا أن نستلهم تجارب السلَفِ ممَّن مضى، لنسترجعَ الفكرَ ونناقشَ في بعض مضامينه نقاشًا موضوعيًّا ودقيقًا وعميقًا وعادلاً فيما تفرضُه العدالةُ من التوازن في النظرة إلى الفكر أو المبدأ، وفي الاستقامة في الحُكم والشمولية في جوانب القضية المُثارة. وما القضيةُ المثارة؟ وما بحثُنا؟

إنه باختصارٍ مرورُ مئة عامٍ على مولد مؤسس الداهشية..ز بما في عناوينها من قضايا تتصل بغاية الوجود الإنساني، وماهية كثيرٍ من المسائل، وإطلاق الجم من المصطلحات التي شغلت الكثيرين كمصطلح: العقيدة، والرسالة، والمعجزة، والتقمُّص، والسيالات الروحية، والصلاة، والصوم... مما نزل وحيًا سماويًّا على الأنبياء في مسيرة دعوتِهم إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدالِ بالتي هي أحسن، والحوارِ، والبرهان، والدليلِ والحُجَّة... وطرحَته الداهشيَّةُ من منظورها معتقدًا آمنَت به، وسعَت إلى إرسائه، وجهدَت في سبيل إقناع الناس بمضامينه وغاياته، ولا سيما مضمون الوحدةِ الروحية والدينية بين أتباع الديانات السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام. ولعل خيرَ مَن يلخِّصُ هذا المضمون الشاعرُ الداهشيّ حليم دمُّوس في إحدى رباعيَّاته:

أرى في بحارِ الشَرِق والغربِ ثـــــــــــورةً                   وأمواجُها العُظمى تــــروحُ وتغتدي

وفي بَحرةِ الأديـــــــــــــــانِ هبت عواصفٌ                  ستطرحُ أهل الأرضِ في كلِّ فدفد

فيا ربُّ قد تاهت بليــــــــــــــــلٍ مراكبٌ                   وها هي لم تغـــــــــرق ولم تتوحــــــــــــــدِ

فهل تلتقي في شاطئ الحب والهُدى                   سفائنُ موسى والمسيحِ وأحمــــــــد؟

مئةُ عام مرَّت، والفكرةُ لا تزال تنمو، والداهشيةُ لا تزال تواجِهُ وتواجَه. فهل يُقمَع الفكر؟ هل يُصادر؟ هل يُطمَس ويموتُ ويندثرُ ويتلاشى؟ وما الأساليبُ التي يجب اتباعُها بين أبناء البشر الذين يكادون لا يتفقون على إنسانيتهم المشتركة، فكيف بقضاياهم الفكرية والثقافية والعقائدية؟

من هنا أسترجعُ فكرةً توجِبُها متطلباتُ البحثِ والمناقشة:

كنت فتًى في السابعة عندما هجَّرتنا "الحرب الأهلية اللبنانية" عام 1975 من منطقة برج حمود في بيروت إلى مسقط رأس آبائي وأجدادي في البقاع، حيث التحقتُ بمدرسة "النهضة العلمية" التي كانت حينها الملاذ – شِبهَ الوحيد – في المنطقة ثقافيصا وتربويًّا وفكريًا واجتماعيًا وخدماتيًا، وهي التي خرجت – ولا تزال – الكثيرين من أبناء هذا الوطن الذين باتت لهم الحظوة والمكانة في كافَّة الميادين، حتى الآن.

وممَّا كان يُلفتنا آنذاك – وقد أتتِ الحربُ على القيم الإنسانية والمعرفة الفكرية – أن كثيرًا من جدران صفوفنا وملاعبنا مزدانةٌ بلوحاتٍ جداريَّة، واقوالٍ خالدةٍ لِمَن نقِّدسُ من عظمائنا الأنبياء والأولياء والمصلحين، مما لا تزال الذاكرةُ تحفظُه وتردِّدُه في كل مناسبةٍ فيها دعوةٌ للحبِّ والتسامح والتسالم. ومن تلك الشواهد:

* الأنبياءُ إخوةٌ: أُمَّهاتُهم شتى ودينُهم واحد. (النبي محمد).

* الحسدُ يأكل الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطب. (النبي محمد)

* وصيتي أن تُحبوا بعضُكم بعضًا كما أحببتُكم. (السيد المسيح).

* ماذا ينفعُ الإنسانَ لو ربح العالم كله وخسر نفسه. (السيد المسيح)

* لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراثُ كالأدب، ولا ظهيرَ كالمشاورة. (الإمام عليّ).

* لا تقسروا أولادَكم على أخلاقكم لأنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم. (الإمام عليّ) وإلى جانبها لوحاتٌ أُخرى كنا نردِّدُ اسم صحابها، ونشعرُ بتوأمتها مع الفكر الروحي الهادي إلى سُبل الحقِّ والخير والجمال، ومها:

* أحبُّ الكتبَ حبَّ السُكارى للخمر. ولكنني كلَّما ازددتُ منها شربًا زادتني صحوًا. (الدكتور داهش).

* المالُ ميزانٌ الشرِّ في هذا العالَم. (الدكتور داهش).

إضافة إلى نشيدٍ كَبُرَ في عقولنا وفكرِنا هو نشيدُ الملحمة العربية الذي صدرَ إدارة المؤسسة التربوية التي انتمينا إليها. وأذكرُه لأن له حدثُا حُفر بذاكرتي وطُبع ونُقِشَ، إذ كنتُ طالبًا في "حوزةٍ دينية" أتلقى العلومَ الشرعية والفقهية في بيروت سنة 1988، والمناسبة "المولد النبوي الشريف"؛ وقد طلبتُ الكلامَ بالنظام، فقلت: سأذكرُ بعض الأبيات لشاعر مسيحي آمنَ بالرسالات والأديان وَحدةً لا تتجزأ، وهو الشاعر الزحلي حليم دمُوس الذي أطلق على نفسه اسم حسان تيمنا بشاعر الرسول حسان بن ثابت الأنصاري. يقول حليم في النبي العربي محمد بن عبد الله (ص):

وأُقسِمُ لو يدري الورى كُنهَ دينهم                     لما فرقوا ما بين عيسى وأحمــــــــــــــدِ

ولا أطلقوا يومًا قنابلَ مِدفــــــــــــــــــــعٍ                      ولا صَقلــــــــــــــوا للحرب حدَّ مُهنَّدِ

فأنتَ أخي ما دامتِ الأرضُ أُمَّنا                      وأنتَ أخي بالروح قبلَ التجســــدِ

لَعمرُكَ ما الأديانُ إلاى نوافـــــــــــذٌ                       ترى اللهَ منهــــــــــــــــا مُقلةُ المتعبــــــــــــدِ

سأنشُرهـــــــــــــــا في الخافقين ملاحمًـا                      على نسج حسَّانٍ ونغمةِ مَعبـــــــــدِ

وأُلقي بُذورَ الحب في كـــــــــــل بيعةٍ                      وأُلقي بذورَ الحبِّ في كل مسجدِ

فألمُسُ في القرآن عيسى بنَ مريمٍ                      وألمـحُ في الإنجيل روحَ محمــــــــــــــــــدِ

وأنيتُ...

وإذا بصوتِ "علامةٍ" هو اليومَ من رؤساء المحاكم الشرعية الجعفرية في بيروت يُخاطبني: أَعِدْ، فأَعدتُ الأبياتَ ثانية، فكرَّر: أَعِدْ ثالثةً... وكانت المفاجأةُ أن ردَّدها بعدي وحفِظَها نتيجة السماعِ والتأثرِ بمضمونها... واعتبرها من روائع الشِعرِ الروحيّ.

يومَها أدركتُ أن الفكرَ الإنساني ينسابُ كاليُنبوع الذي يروي ظمأ العطاشى إلى المعرفة، فيُخصبُ الأرضَ ويمرعُ ويُعطي، دون وَسْمِه بنعتٍ أو وصفٍ أو حدٍّ.

بعد مئةِ عام تحتفي "الداهشيةُ" بولادة مؤسسها، والسؤال: أين القمعُ؟ والتسلُّطُ؟ والقيودُ؟ والحِرابُ؟ والأسنَّةُ والرِّماحُ التي شُهرتْ بوجهِ المعلمِ والمؤسِّس؟

لقد سقطَت جميعُها، لأنَّ الفكر، أيًّا يكُنِ الفكر، ينشرُ ويزدادُ رسوخًا وتجذُّرًا كلَّما تعاظمَت عليه النوائبُ والمشكلاتُ والمصائب، وهو ما يجعلُنا نتشبثُ بالأساليب التي أرسَتها كتبُ السماء والوحي في طرائق المحاجة والخصام والخلاف والنقاش، ومن أهمِّها أساليبُ الدعوةِ في القرآن الكريم، مُستلهمين قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلهم بالتي هي أحسن) (النحل: 125)، (قل هاتوا بُرهانكم إن كنتُم صادقين) (البقرة: 111)، (قل الله وإنا أو إياكم لعلى هُدًى أو في ضلالٍ مُبين) (سبأ: 24)، (فمَن شاء فليُؤمنْ ومَن شاءً فليَكفرْ) (الكهف: 29)، (وقُل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) (الإسراء: 53).
          كلُّ ذلك لمواجهةِ الفكرةِ بالفكرة، والدليلِ بالدليل، والبرهانِ بالبرهان، والرأي بالرأي، والكلمِة بالكلمة؛ وهو من أهمِّ الأساليب التي انتهجها أميرُ البيان الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) مع الخوارج، مثلاً الذين لم يبدأ معهم قتالاً إلا حين عاثوا فسادًا في الأرض، وقتلوا الصحابي خباب بن الأرت وزوجته. فحين أرسل الإمامُ عليّ عبد الله بن العباس للاحتجاج على الخوارج أمرَه قائلاً: "لا تخاصمهم بالقرآن، فأن القرآن حمَّالٌ ذو وُجوهٍ تقولُ ويقولون، ولكنْ حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها مَحيصًا". فلا قتالٌ ولا حرابٌ بل فكرٌ يوجَّهُ ويُرشِدُ ويهدي.

وقد جاءَ في نهج البلاغة أنه (عليه السلام) كان جالسًا في أصحابه، فمرَّت بهم امرأةٌ جميلة، فرمقها القومُ بأبصارهم، فقال عليّ (ع): "إنَّ أبصارَ هذه الفُحولِ طوامحُ، وإن ذلك سببُ هبابها، فإذا نظرَ أحدُكم إلى امرأةٍ تُعجبُه، فليلامسْ أهلَه، فإنما هي امرأةٌ كامرأته." فقال رجلٌ من الخوارج: "قاتلة الله كافرًا ما أفقههُ!" فوثبَ القومُ ليقتلوه، فقال الإمام: "رويدًا إنما هو سَبٌّ بسَبٍّ أو عفوٌ عن ذنبٍ". ("نهج البلاغة"، ج4، ص 720 – "تحفُ العقول" ص 89).

لقد سبَّ الخارجيُّ أميرَ المؤمنين بالكفر، لكنَّ الإمام لم يسمح بقتله، بل قال: إما أن أسُبَّه – وهو ما لم يفعله الإمام قط، بل نهى وحذر أتباعه من السب واللعنِ والشتم – أو أن أعفو عن ذنبه، وهكذا كان.

فأين الإمامُ اليوم؟ وأني مَن عاداه وسَبَّه وشَتمَه؟

يجيبُ أحدُ الشعراء (مادحًا الإمام عليًّا):

قُمْ وارمُقِ النَجَفَ الأَعزَّ بنظرةٍ                         يرتدُّ طرفُك وهو باكٍ أرمَــــــــدُ

تلك العظامُ أعزَّ ربُّك شأنهــــــــا                          فتكادُ لولا خوف ربك تُعبدُ

وأين الدكتور داهش من المناوئين والظالمين والطُغاة الذين جرَّدوه من أسمَى مظهرٍ إنسانيٍّ روحيٍّ تجلَّى في نَزعِ الجنسيةِ الوطنية عنه؟ لقد تعملقَ وشمخَ بتعاليم السماء بينما ضاقتٍ الأرضُ بالطُغاةِ الأقزام...

ولداهش في تاريخ الأنبياء أُسوةٌ حسنة... فلقد تعرَّضَ الأنبياءُ المرسَلون – عبر تاريخهم الرسالي – لشتى صنوفِ القهر، والكيد، والحسد، والتعذيب، والتجريح، والأقاويل، والأكاذيب، والأباطيل، والاتهام بالسحر والجنون... وكذلك أتباعُهم ومريدوهم، وموالوهم، وكلُّ مَن اتخذ طريقَ الحقِّ والعدلِ والحرية والسلام والمحبة سبيلاً... وقد نصرَ الله مَن نصرَه صَدقًا والتزامًا ومنهجًا وأسلوبَ دعوةٍ.

لقد جوبِهَت الداهشيةً بالقمع، والسجن، والقيد، ومصادرة الحق المقدس في التعبير عمَّا يحاولُ الداهشيون التعبيرَ عنه، وهو الرأيُ الذي قيل فيه: "الفكر حر"، لأنه أثمنُ ما يملكُه الإنسانُ في حياته. ولا بد أن مَن يقارعُ الفكرَ لطَمسِه أو إلغائه أو مصادرته يكون مجنونًا؛ فهو لا يستطيعُ أن يفكرَ بحرية وأمانةٍ وموضوعية، ولا يمكنُه أن يأسرَ فِكرَ الآأخرين، لا سيما حين يتصلُ فكرُهم بنور السماء، ويعبرُ عن قُدسية الروح.

إن الميدانَ يتسعُ لكل الأفكار والطروحات، المقبولةِ منا والمرفوضة، شرط أن يبقى الاختلافُ والخلاف حواريًا. فالحوار منهجُ الرسالات والرسل، ومنهجُ وأسلوبُ الكتب السماوية؛ فهل من يحاورُ ويناقشُ بموضوعيةٍ وأمانةٍ ودقةٍ! الحقيقة بنتُ الحوار، "وليست ابنةَ الإرهاب الجسدي والفكري، والتحجُّر والانغلاق والعنف والظلم". والفكرُ، كما يقولُ هيجو، قوةٌ فعالةٌ دونها كلُّ قوةٍ هائلة. وقد أكد كونفوشيوس أنه "لا يمكنُ للمرء أن يحصلً على المعرفة إلاَّ بعد أن يتعلم كيف يفكر".

فهل يتعلمُ مَن قارعَ الداهشية بالبطش أنه كان ينبغي أن يكونَ "الحوارُ" وتكونَ "الحُجةُ" القاطعةُ هي الفيصلُ بين ما يدينُ به المرء، من معتقد فكريٍّ أو دينيٍّ أو سياسي أو ثقافي، والمبدأ الآخر؟ وقد ورد في المأثور الديني: "الطرقُ إلى الله بعدد أنفاسِ الخلائق"، وأنه (لا إكراهَ في الدين قد تبين الرشدُ من الغي). فالله تعالى قد بعثَ الأنبياء مبشرين ومنذرين، فمن شاء فليؤمنْ ومْن شاء فليكفر، وجعل مبدأ الثوابِ والعقاب بيده. ولو كان البشرُ المتخاصمون المتنابذون يملكون خزائنَ رحمةِ الله لأمسكوا خشية الإنفاق، ولبخلوا بالمحبة وبالتسامح والوِدِّ والرحمة الإنسانية. فلا يمكنُ لمخلوقٍ قط أن يعتقد أنه يملكُ الحقيقة المطلقة، وأنه من يمنحُ الناس صكَّ الإيمان، أو الكفرِ؛ فالإيمان نسبيّ، والكفرُ كذلك...

مئةُ عام، دليلٌ قاطعٌ على أن التعتيمَ أو المصادرة لمبدأ أو عقيدةٍ لا يمكنُهما إلغاءُ الكفر أو العقيدة، بل هو الحوارُ في الهواء الطلقِ وفي الصحوِ المبدع. فإذا التقتِ الداهشيةُ مع تعاليم السماء في دعوةِ الإنسان للعودة إلى أصالته وروحيته وإنسانيته، وفي الإلتزام بقيم الحق والعدلِ والحب والسلام والطمأنينة، شكل هذا اللقاءُ أرضًا صلبةً متينةً للانطلاق بركبِ الإنسانية في ما يأتي عليها بالخير والعزِّ والسعادة... وإذا اختلفت نظرةُ المريدينَ والأتباع لأيِّ مبدأ أو عقيدةٍ أو دينٍ أو مذهبٍ أو فكرٍ أو رسالة مع ما تُثيرُه من مصطلحات: كالمعجزة، والرسالة، والعقيدة، والصلاة، والصوم، والروح، والإيمان، والثواب والعقاب، والتقمص، والدين, فليكنْ حقُّ الاختلاف هو الذي يحكمُ حركيةَ هذه المصطلحاتِ ومدى انسجامها مع ما يؤمنُ به الفردُ من معتقدٍ، لا سيما أنه ندُرَ أن يتفقَ الناسُ على وَحدةِ المصطلحِ والمفهوم... فإذا كان طاغورُ الهنديّ العبقريّ ممَّن يرى ربَّه في لون الزهرِ، وحَبابِ الموج، وزُرقةِ البحر، وشموخِ الجبال، وفي تجلياتِ الطبيعة الخلابة، كان وصيُّ الأنبياء عليّ بن أبي طالب يقولُ: "ما نظرتُ إلى شيءٍ إلا ورأيتُ الله فيه".

أيُّها الأحبةُ... المئوية الداهشية نداءُ السماءِ ودعوةُ الفكرِ وكلمة الحوارِ والانفتاحُ الروحيُّ السامي.

ليكُنِ الحوار، وأساليبُ الكتبِ السماوية، ورُسُلُ السماءِ مُثُلاً نستلهمها في حياتنا وواقعنا؛ فقد (كان الناس أُمةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزلَ معهم الكتابَ بالحق ليحكمَ بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لِما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم). (سورة البقرة: 213).

إن رسالاتِ السماء قد شكلت حلقة متكاملة، وخُتمت وحيًا بالنبي العربي الهاشمي محمد بن عبد الله (ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسولَ الله وخاتم النبيين) (الأحزاب: 40)، واستمرت بأوصياء الرسلِ والتابعين والأئمة والصحابة والمبلغين والمفكرين والمصلحين، والذين غيروا وجهَ العالَمِ في توجيه العالَمِ الدنيوي البشريِّ نحو قيم الروح. فإذا بالأهواء والمطامع الكامنة في النفوس تسعى لاستغلال الرسالات والدين والقيم والمبادئ والأخلاق الرسالية، فنأى الإنسانُ عن المُثُلِ والشرائعِ، واستحكمت الرغباتُ والنزواتُ؛ الأمر الذي يوجبُ العودةَ إلى الينابيع الصافية العذبة.

وهو نداءٌ من نداءات الداهشية. وما أحوجنا إلى قراءة "مذكراتِ يسوعَ الناصري" لنطرد لصوصَ الفسادِ وتجارَ الطائفية البغيضة من نفوسنا، وقراءةِ "محمدٌ سيدُ الخلق" ليكون لنا البشير والنذير والسراج المنير، وقراءةِ "أناشيدي" كي نُنشدَ لحنَ المحبة والتسامح العالميين، بعيدًا عن أدران الأرض وشهواتها وملذاتها.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.