الأستاذ مصباح محجوب
كاتب وباحث لبناني. عضو المجمع الثقافي العربي. عضو اتحاد الكتاب. نشر مقالات سياسية وعسكرية وفكرية كثيرة، وأعد وقدم عدة حلقاتٍ في برامج تلفزيونية. من مؤلفاته "رحلة المجانين في عالم الجن والشياطين" (دار شوق 2000)، و"أضواء على نبي الإسلام" (دار الانتشار العربي 2007).
كان رائدًا بإنسانيته
مع أن لي من المؤلفات ما يزيد عن العشرة، فإنني حين أمسكت بالقلم، وقررت الكتابة عن الدكتور داهش في الذكرى المئوية الأولى لميلاده، انتابني إحساسٌ بعدم القدرة على الارتقاء، بفكري وقلمي، إلى مَصافً قِمم الأدب الذين كتبوا عنه. كيف لا، وهو الذي مَنَّ الله عليه، لعمق وصدق إيمانه وصفاءِ ونقاء سريرته وعشقه وشوقه للقائه في عالم الصفاء والنقاء والمحبة والسلام والسكينة، بفيضٍ من نوره لا تُطفأُ مصابيحه، وسراج لا يخبو توقُّده، ومنهاجٍ لا يضل نهجُه، وشعاعٍ لا يُظلمُ ضوؤه؛ وجعل من أفعاله وأقواله بُنيانًا لا تُهدَم أركانه، وعزًا لا تُهزمُ أنصاره، وحقًا لا تُخذلُ أعوانُه هو بعضٌ من معدم الإيمان النقي ويُنبوعٌ من ينابيع العلم الصافية وركنٌ من رياض العدل!
لِمَ لا، وهو الذي أدرك أن أحبَّ العباد إلى الله المتأسي بنبية والمقتصُّ لأثراه!
لِمَ لا، وهو الذي أعرضَ عن الدنيا بقلبه، وأمات ذِكرَها في نفسه؛ خرج من الدنيا خميصًا، وورَدَ الآخرة سليمًا!
لكلٍّ هذا الذي أشرتُ إليه – وغيرُه لم أعلمْه – جاءت أقوالُه وأفعالُه أقربَ إلى الإعجاز، احتار القريبُ والبعيدُ في تفسيره أو فهم كُنهِه.
فالبعضُ ترجم حقدَه على الدكتور داهش بوصفه بـ"الساحر"، تمامًا كما وصفت قُريش نبي الإسلام (ص) قبل 1450 سنة (في بداية الدعوة إلى الإيمان بالله وعبادته) بأنه "ساحرٌ مجنون".
والبعضُ من أصحاب العقول المظلمة والألسنة البلهاء رمَوه بالمشعوذ المشاغب والمدعي.
وفريقٌ ثالث (ختم الله على بصره وبصيرته) كبشاره الخوري الذي اشتط في أذاه للدكتور داهش الداعي إلى الإيمان المطلق بالله وأنبيائه وكُتبه، ولشقيقته البريئة. ولكن الله الذي يمهل ولا يهمل اقتصَّ للمظلوم من الظالم بشاره الخوري، فانتهى نهايةً بشعة لا تليقُ بالإنسان، بل هي إلى الحيوان أقرب.
حقيقةٌ لفتت انتباهي: أعترفُ بأنني في البدء لم أقصد الجد في تقليبي لبعض من مؤلفاته. إلا أنني ما لبثتُ أن غيرتُ رأيي حين اكتشفتُ عظمةَ هذا العبقري الفذّ من خلال ما قرأته عن الروح وخلودها، والحياة، والموت... فوجدتُ نفسي، كلما انتقلتُ من موضوع إلى موضوع، أُحسُّ بتغيير المشاهد. تارةً كنتُ أجدُ نفسي ي عالمِ يغمرُه من المعاني أرواحٌ عالية في حُللٍ من العبارات الزاهية تطوفُ على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية توحي إليها رشادَها، ةتنفرُ بها عن مداحض المذال إلى جواد الفضل والكمال. وطورًا كانت تتكشف لي الجُمل عن وُجوهٍ عابسة وأنيابٍٍ كاسرة وأرواحٍ في أشباه النمور ومخالب النسور قد تحفزتْ للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوبَ عن هواها، واغتالت فاسدَ الأهواء وباطل الآراء.
وأحيانًا كنت أشهدُ عقلاً نورانيًا لا يشبه خلقًا جسدانيًا، فُصلَ عن المواكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونماه إلى مشهد النور الأجلي، وسكن به إلى جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التدليس. وأحيانًا كأني كنت أسمع خطيبَ الحكمة ينادي بعلياء الكلمة إلى كل أبناء الله، يعرفهم مواقع الصواب.
بعد هذا الذي قلتُه بكل صراحة أودُّ أن أهمسَ للدكتور داهش وهو في عالمه العلوي النقي: يا عزيزي الدكتور داهش، أنا وأنت وكثيرون نعرف أن الإنسان العربيَّ المُبدع أو المفكر بشفافية بعيدًا عن المآرب معلق على المشنقة منذ عقود، إن لم نقل قرون؛ معلق على المشنقة منذ تحالفت السلطة الحاكمة مع الطبقة الدنيا من رجال الدين، وأنت القاتلُ للشيطان في كتابك "جحيم الذكريات": "ها هم رجال الدين يتخذون من اسمك ستارًا يُخفون وراءه غاياتهم السافلة ومقاصدهم الشريرة...".
وأنا إذْ تطرقتُ إلى هذه النقطة إنما لأقول إن الاضطهاد والممارسات الظالمة التي لحقت بالدكتور داهش، بدون وجه حق أو أي مسوغً قانوني أو إنساني، سبق أن ذاق مرارتها واكتوى بألمها عدد كبيرٌ من مُبدعي الأمة في الفكر والأدب والاجتهاد والإبداع، من الحسين بن منصور الحلاج، إلى أبن مسرة القرطبي إلى ابن الاقليلي الأندلسي، وابن عاصم والسنابسي... وغيرهم كثيرون.
بالعودة للدكتور داهش، أقول: لا بد لكل أديب ومفكر مهما علا شأنه من أن يعترف بأنه (أي داهش) عملاقُ فكر وبيانٍ وأدبٍ، وشخصية تتدفق بنور الوجدان؛ وأنه يستحق أن يتسنم أعلى القمم، لأنه مد العقول والضمائر بما لا ينضبُ له معين، وبما لا يؤثر فيه زمانٌ ولا مكان. فإذا به ملاذٌ يلجأُ إليه طُلاَّبُ الحق والعدل من الناس، وأبٌ يحتمي تحت عباءته الإنسانية من شعروا بالظلم بجورُ على العدل، وبالقسوة تكتسحُ العطف، وبالشر يفترس الخير، وبالإثم يعلو ويصبحُ له دولة وسلطان مصيرهما إلى زوال...
وحتى لا أطيل، أقول إن الدكتور داهش كان رائدًا بإنسانيته المتفجرة فكرًا وأدبًا وثقافةً وإبداعًا، سار على دروب العطاء متسلحًا بالمحبة والتسامح حتى ملأ سني عطاءاته صفحات وصفحاتٍ، بل كتُبًا ومجلداتٍ أفادت منها الملايين من الباحثين عن المعرفة الروحية الشفافة.
كان، رحمه الله، مناضلاً لا يعرفُ الانكسار أمام المحن والصعاب التي تعرض لها. وما كانت تضحياتُه إلا فعل إيمانٍ ومشروعَ عطاءٍ لا يحدُّه زمانٌ أو مكان. وهب نفسه لفعل الخير على صعيد مجتمعه والمجتمع الإنساني من غير أن ينتظر مقابلاً أو شهادة تقدير من أحد. فكانت محبة الناس له وتقديرهم لعطاءاته الفكرية النقية الإبداعية التي لم تكن لتنضب خيرَ وسام يُعلقُ على صدره في زمنٍ قل، بل ندرَ فيه امثاله من الداعين إلى التمسك بحبل الخالق وأديانه المنزلة.
نسجَ الدكتور داهش حروف أدبِه بخيوطٍ من الشفافية والروحانية، فإذا به مُبدعُ الألفية الثانية (المنصرمة) من دون مُنازع. وإذا بأعماله الأدبية تستقر في أشهر المكتبات والمتاحف العالمية، ويدرسُ بعضُها في عدد من جامعات العالم، ليتكرس اسمه في ذاكرة الأجيال وفي ذاكرة كبار المُبدعين حول العالم الذين استوحوا من إبداعاته الأدبية عشرات الكتب.
داهش واحدٌ من عباقرة الفن والأدب العالميين. لن يستطيع أحد أن يحاكيه في تجربته الفريدة، تجربة الارتقاء فوق العذاب والقهر والغش والخداع، تجربة الود والصفاء النفسي والانسجام مع كل ما هو طاهر ونظيف من سلوكيات أبناء البشر.
لقد أنعم الله على الدكتور داهش بموهبة فذة غربية حيرت كل من حاول فك شيفرتها، وتفجرت إبداعًا طار في الآفاق ليصبح عالمي الصفة الهوية.
هو روائي خلد تاريخ الإنسان ورسامٌ جسد روائع رؤاه في لوحاتٍ تقرأ وترى. إنه عالم من الخلق والإبداع النادر. لقد جسد الدكتور داهش حالته الروحانية في لوحات كتابية رائعة كشفت عن شفافية إنسانيته على إيقاع فلسفي صقلته السنونُ الطويلة التي أمضاها بحارًا يغوصُ في أعماق ذاته، ليخرج منها، بدلاً من اللؤلؤ والمرجان، إبداعاتٍ أديبة خالدةً امتزجت بالمحبة والصفاء اللذين يعتصر بهما قلبه الحنون.
لقد اعترف أعلام الفكر والأدب بمواهبة غير العادية، وسحر قلمه الذي أبدعَ في تحويل الأفكار إلى ألوانٍ تزين لوحاتٍ يقف الناظر إليها مندهشًا مشدوهًا حائرصا في نعمة الخلق التي أنعم الله بها على الدكتور داهش، فكان بحق قمة من قمم الأدب العالمي الدائم الإشعاع.
بقي أن أقولَ إن الكتابة عن الدكتور داهش هي بمثابة رحلة الأمس واليوم والغد. إنها بالنسبة لي، كالنحت في عالم الذكريات والحنين والتاريخ لتدوين الماضي والحاضر في ذاكرة المستقبل... ليبقى اسمُ الدكتور داهش رمزًا، بل نجمًا لا يخفتُ بريقه مهما طالت سنو غربته عن عالم أحبه وتمنى سرعةَ الوصول إليه، عالَمِ الروح، عالَمِ الخلود، إلى جانب أعظم خلقِ الله القائل: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات...)
أخيرًا لك يا دكتور داهش ولكل محبيك أُقدم اعتذاري، إذ لم أوقف في الارتقاء إلى حقك ومقدارك.. مع أني حاولتُ.