الأستاذ محمد عبد الرحمن محمد
صحافي لبناني. صاحب مجلة "حضارتنا" ومديرُها العام (وهي مجلة تُعنى بالشؤون الإنسانية والحضارية عامة، وبخاصة ما يتصل منها بالعالمين العربي والإسلامي). وهو صاحب مجلة "قطر الندى" ومديرُها العام (وهي مجلة ثقافية اجتماعية على وشك الصدور).
الدكتور داهش منارةٌ إنسانية
إن الكتابة عن عظماء الإنسانية وعباقرتها، وهم أشبهُ بالفصوص الألماسية التي تزينُ عقد التاريخ بألوانها المختلفة، هي معاناةٌ ما بعدها معاناة تعترضُ سبيل أي كاتب بمجرد تفكيره بالكتابة عن هذه النخب الإنسانية، وتحديدًا النخب التي طبعت مسيرة الإنسان، منذ فجر الخلق وبدء التكوين الآدميِّ، ببصماتٍ حضاريةٍ رائعة، والتي هي أشبهُ ما تكون بالمنارات التي تهتدي بها كلُّ نفسِ تائهة في لُجَج العتمة والظلمات.
ولئن تبسط القرطاسُ أمام ناطريك فذلك سهل؛ وأسهلُ منه امتشاقُ اليراع. فمكمنُ المعاناة سينحصرُ في زوايا الكيف والأين من كيفية عمل الفكر والعقل، وفي إيفاء هؤلاء العظماء ولو اليسير مما يستحقون. نعم، فلو أراد أيُّ كاتبٍ أن يتناول أي موضوعٍ أو مادةٍ ليكتب فيها، فما علي سوى أن يترك العنانَ لعقله ليستنبط، ولأنامله أن تمسكَ القلم، فترتسم الأفكارُ لوحاتٍ فكريةً أو أدبية أو علمية أو وجدانية. ولو أراد الكاتبُ نفسُه، أو أي كاتبٍ آخر يمتلكُ الحرفية في الكتابة، أن يتناول بحثًا ما، فما عليه سوى الغوص في أعماق هذه البحث وسَبْرِ أغواره عبرَ المراجع الوافرة والغزيرة التي تتناولُ كل مفصلٍ من مفاصل تطور الإنسانية منذ البدجء وحتى عصرنا هذا...
أما عندما يُطلب من الكاتب أن يكتب عن عظيمٍ من عظماء كوكبنا الأرضي أو علَمٍ من أعلام التاريخ والإنسانية، فدون ذلك صعابٌ وصعابٌ تنتصب أمامه، ولا سيما إذا كان يتصف بالحياد والتجرُّد، ويتسلح بالحجة والمنطق والدليل. وتبدأ المعاناةُ عندما يحاولُ الفكرُ لملمةَ ما يمتلكُ من علوم حول هذا العلم أو ذاك النجم أو غيره ليحاولَ التحليقَ لمُلامَسة حقيقة تلك الشخصيات الإنسانية، وخاصة تلك التي حباها الله بنعمٍ إلهية ومكرُماتٍ ربانية بانت حقائقها لكل ناظرٍ إليها، ولامستها كل يدٍ أراد عقلُ صاحبها أن يستيقن؛ فمنهم من استيقن وآمن، ومنهم مَن استيقن وكابر. فما إن يبدأ الكاتب حتى تغزو الحيرةُ عقله وتقتحمَ أفكاره وتدهم خواطره. ويكاد يشعرُ بالشلل الفكري، إذ تجتاحُه الرهبة، ويتملكُه الخوفُ من أن يخطئ في التقدير أو يُنقص في التقييم، فلا يُوفي المصنفَ حقه من التصنيف. وتتملكُ الأنامل الرجفةُ لإدراك صاحبها أن مساحة اليراع والمداد والقرطاس أضيقُ من مساحة هذه المنارات الإنسانية العظيمة!
ولكم أنبأنا التاريخ عن تلك المنارات الإنسانية التي ما خلت الأرض منها لا عصرلًا ولا دهرًا بدءصا من أول الخلق آدم، عليه السلام، وابتلائه بقتل أحدِ ولديه الولدَ الآخر – وكان ذلك تجربةً رهيبةً مرَّ بها أبو البشر زادته إيمانًا على إيمان ونورًا على نور، وما استطاعت هذه البليةُ أن تنال من صبره وإيمانه العظيمين – إلى سيدنا لوط، عليه السلام، وابتلائه بقومه الذين كلما ازدادوا فسادًا في الأرض ازداد صلاحًا في النفس والروح. وثمة سيدنا نوح الذي أنذر قومه من غضب الله أو يصلحوا أنفسهن، فاستهزأ أكثرهم، فأتى أمرُ الله، وصدَقَ وعدُه؛ وسيدنا أيوب، عليه السلام، الذي صبر على كل بلاء أُصيب فيه في الجسد والرزق والولد، لنتعلم منه الصبر الذي راح مضرب المثل إلى وقتنا هذا؛ وسيدنا يونس، عليه السلام، الذي ابتلعَه الحوت. ولا ننسى تجربة الإيمان مع خليل الله وولده إسماعيل، عليهما السلام؛ وسيدنا عيسى ابن مريم، عليهما السلام، وقد كانوا يزرعون الآلام في جسده الشريف، فتنبت وردودٌ تعبقُ برياح الحب وأريج التسامح؛ وسيدنا يوسف، عليه السلام، الذي لا يقلُّ صبره على المظالم بإيمانٍ عظيم – لا يقلُّ عظمةً عن مجابهة سيدنا موسى، عليه السلام، لجبروت فرعون وطغيانه. وأختمُ بالهادي محمد، عليه وعلى إخوانه النبيين من قبلُ ألفُ صلاةٍ وسلام، وقد تحدى بإيمانه الإلهي غطرسةَ المُشركين الذين أطلقوا عليه سهام الافتراءات الظالمة والأحقاد، فردَّ بتضرُّع لله وابتهال أن يغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون. والأمثلة بالآلاف من نُخَب هذا الكوكب الذي نحيا عليه.
والحق أن الصراع بين الخير والشر لم يتوقف عند الرسل والأنبياء والمكرمين فقط. فلقد شهد التاريخُ الإنسانيُّ صداماتٍ كثيرةً ومبارزاتٍ بين جبابرة التاريخ العُتاة والمنارات الإنسانية والحضارية التي لم تخلُ منها الأرضُ يومًا لا في زمان ولا في مكان. فما دام النقيضان موجودَين، أعني الخير والشر، النور والظلام، الإيمان والكفر، الرحمة والقسوة، الموت والحياة، الليل والنهار – أقول: ما دام هذان النقيضان مستمرين، فالصراع بينهما لم ينته – ولن ينهي – حتى في عصورِ ما بعد النبوة؛ ولنا من كربلاء الحسين شاهد، فضلاً عن كثيرٍ ممَّا مرّ به عبادُ الله الصالحون ورجالاتُه المؤمنون. ونحن إذا كنا لم نحي في تلك الحقبات السالفة، ولم نُعايش أو نعاين أحداثها لنستذكرها فكرًا وبصرًا، فإن التاريخ قد أخبرنا عن منارات الخير والنور، تلك التي جابهت رموز الشر التي ما فتئت تُحاول النيل من إيمانهم وهديهم بقصد هدم مناراتهم المُضيئة لإطفاء نور الله (ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نورَه ولو كرهَ الكافرون).
ولكن ما عذرُنا نحن الذين عايشنا وعاصرنا معركةً ضاريةً دارت رضحاها بين هذين النقيضين التاريخيين، ومن يمثلهما. نعم، في الأمس القريب عايشنا إحدى جولات الحق مع الباطل. وكان رمزُ الحق رجلاً أتى دنيانا الفانية كومضةِ نور: في عقله نور، في قلبه نور، في يده نور. نورانيًّا كان في علمه وعلومه، في أدبه وأدابه، في خُلقه وأخلاقه. والنور قد يصبح خطرًا على مَن كانت بصيرتُه مظلمةً، وعقلُه مُظلمًا. رجلٌ حباه الله بأنعام إلهية ليكون حُجَّة على من ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة. قابلوه بالكذب فازداد صدقًا. انهالوا عليه بافتراءاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، فكان سلاحَه الحُجةُ والدليلُ والبرهان. وصفُوه بما يتصفون هم به، وهو من وصفهم براء، فكان أيضًا وأيضًا يصدُّهم بالعلم والمنطق والبيان. هتكوا بظُلمهم له كل عُرفٍ وكل شرع، فكان يزداد تمسُّكًا بالأعراف والشرائع. هددوه تنكيلاً وسجنًا، بل قتلاً، فردَّ عليهم مُشفقًا على نفوسهم الضائعة والتائهة. عليةُ القوم يأتونه، فيرونه أكبرَ منهم. يأتيه المعذبون من فقراءِ القوم، فينفتحُ لهم ذراعيه، وبنعَم الله الإعجازية وبإذنه يشفي هذا ويُبرئُ تلك. يزيده الله تعالى إعجازًا وأنعامًا ومقدرة، فيزدادُ تواضعًا وطيبة وتسامُحًا. إنَّه الدكتور داهش الذي أتى إلى هذه الدنيا الفانية كما سبقه الكثيرون من رجالات الله على الأرض، الذين ينطبقُ على كل واحدٍ منهم وصفُ "المعلم" بحق. انساب الدكتور داهش إلى دنيانا كما تنسابُ بضعُ الشمس المُشرقة على شجرةٍ وارفة، فيها من الوريقات المفعمة بالحياة التي تنهلُ من إشراقات النور ما يزيدها اخضرارًا وحياةً، وتطلعُ ثمرًا طيبًا؛ وفيها من الوريقات الصفراء التي تختبئُ من بضع الشمس، فيصيرُ مثلها مثل السقيم الذي يزدادُ سُقمًا والدواءُ بين يديه لا يَقربُه. هكذا هي النفوسُ الخضراء المورِقة والمخضوضرة، تستمدُّ العافية من تعاليم العُظماء ونواميسهم لتبقى مناراتُهم شامخةً في كلِّ آنٍ وزمان، تنيرُ الدروبَ أمام المعذبين والمتعبين. أما الصفراء من الوريقات، فهي واهيةٌ ديدنها السقوطُ على الأرض لتدوسها كل قدَمٍ تطأُها.
فمثلُ شجرةٍ مثمرةٍ تحمل ثمرةً طيبة تُنبتها لتُطعم كل جائعٍ، فترجمُها كلُّ يدٍ بحجر، فلا تغضب، ولا تتوقف عن الحمل المثمر، بل تعاودُ حَمْلها في كلِّ عامٍ غيرَ آبهةٍ بالأحجار التي تُرجَم بها – مثلُها مثلُ رجلٍ طيبٍ يحمل بذورَ الصلاح رسالةً زرعها في كل نفسٍ تائقةٍ للصلاح، وفي كل أرضٍ خصبةٍ لتُزهر إنسانيةً نورانية إيمانية تتجذر كجذور الشجرة الطيبة. فكما إن الشجرة المثمرة لا ينفع لها أحيانًا ثمرُها الطيب، كذلك الرجال الصالحون لا يشفعُ لهم صلاحُهم عند الظالمين مهما بلغت الخوارق على أيديهم، ومهما بلَغت العطاءاتُ الإلهية لهم. ودعُونا من سبر أَغوار التاريخ لتقديم الأدلة على ما نقول من رُسُلٍ وأنبياء مكرمين، ومن أئمةٍ طاهرين، وصحبٍ مُنتجبين... فالأمسُ القريب، كما ذكرنا قبل هذه السطور، يقدمُ عينةً راقية، ونموذجًا حضاريًا، ساميًا ونبيلاً؛ نعني به الدكتور داهش الذي كانت جريمتُه الوحيدة أنه قدَّم للإنسانية المعاصرة باقاتٍ إنسانية في شتى مجالات الفكر والأدب، وكانت له لمساتُه الإعجازية التي بهرت كل من عايشه، ورأى ولمس.