الدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر
أديبة لبنانية وأستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية. حازت دكتوراه دولة الأدب الفرنسي (الجامعة اليسوعية ببيروت 1987)، ونالت الإجازة في الفلسفة (1987) والحقوق (1993). رئيسة "مجلس الفكر" منذ 1992 وعضوٌ في عدة مؤسسات ثقافية. شاركت في عدة ندوات ومؤتمرات ومحاضرات في لبنان وخارجه. اشتركت مع الأب نجيب بعقليني في تاليف "المرأة والتنمية"، "كي نبقى معًا" و"لقاء وعهد". من ترجماتها "الشيء الصغير" Le petit chose لألفونس دوديه.
نشرت عددًا كبيراً من المقالات في كبريات الصحف والمجلات اللبنانية.
الفكر الداهشي
مَن يدخل العوالمَ الداهشية يتمنى استيطانها، علهُ يغدو جزءاً من ذرات أفلاكها. رُبَّ معترضٍ يقول: "وهل يمكن للأفلاك ملامسةُ أرضِ البشر؟" نُجيب كل مُشككٍ: "يستحيلُ التحليق على مَن آخى الأرض إن لم يتطهر من ترابته".
إيكاريٌّ هو، من أرضعته الشمسُ حليبُ الارتقاء، فكسَّر قضبانَ سجن الأرض، وهوى صعودًا! عفوًا، ما مِن صفة للحُبَّ الماهويّ، ما من وجهةٍ لِمَن تخطى حدود المعمورة. وحدَه الكون يناديه، ودأبه مَركزُ الدائرة المقدسة. فالتشظي الجسدي موتٌ فانٍ لانبعاثٍ حقيقي.
كلُّ رحَّالةٍ في الفكر الداهشي يتسسيغُ المغامرة، فيعتقدُ لوَهلةٍ أنه ملك ما رأته عيناه؛ تمامًا كَمَن يعتلي أعلى قمة، فتترسخُ في ذِهنه نشوةُ استيعاب العالَم ضمًّا بصريًا! فاللوم لا يطالُه، بل يقعُ على تأثير المرتفعات! عشرات المؤلفات، ناهزت المئتين، والمئتان نداهاتان لدراسات تسعُها الكتب، إلا أنها تقفُ متسائلةً عند عتبة المعبد الداهشي!
المؤمنون كُثُر، إلا أن الإيمان الحقيقيَّ ما زال مشروعَ ولادةٍ يحلم باحتضان حبٍ حقيقي ليرى النور، مكللاً هامته بألقِ العارف وجرأة الهادي وشجاعة المبشر المؤمن بخلاص العقل ومعجزة تخطي الحواسّ.
لُقِب بالـ"داهش" لأنه خرج عن المالوف، وما تفرده الإدهاشيُّ سوى لونٍ من قوس قُزحِه الإبداعي. أحببته أم لا، وافقته أم لا، فرأيُك لن يزيل أثر من طبع حِقبةً زمنية بمحيطيه معرفته، ووفرةِ كتاباته، وشموليةِ ثقافته، وسيل معجزاته وخوارقه. آمنتَ به أم لا، فتجاهُلُك أو حتى إزراؤك لن يُلغيا مسارَ جدولٍ تدفق نهرًا، وفاض بحرًا، واهتاج محيطًا، وهدر شلالاً، "فتشلل" فكراً إنسيابياً لا تدفئُه سوى نار المعرفة اللابروماثية بعد أن تبركنت قذفًا حمميًا يتوق لحرق ذاتٍ وعدت بلذة الاحتراق، ورمادًا يكسو الحي الميت المتشوق لِكَفَنٍ لعازريٍّ ينتشلُه من هبائية العدم، فيهبه ماهية الوجود.
-----------------------------------------------------------
دكتور داهش،
يا من زرعتَ الأمل تخطيًا، عجيبٌ أمرُك! وأنت من أنت، وقد هِمتَ في فضاءاتٍ أثرية، لامستَ المابَعدَ ارتحالاً ذهنيًا، وتخطيًا جسديًّا. إلا أنك لم تتنكر لطبيعتك البشرية، ولَم تلبس رداءَ الزيف، وخُبثَ الاستكبار، وقناعَ الادعاء، وازدواجية الكذب! أحببتَ كمعظم البشر؛ لَوَّعك الهوى وإن لَم تَهوِ: "عبدتُكِ عبادةً... أنتِ متجهي وقبلتي".1 تألمتَ كمعظم البشر، بل أكثر؛ وهذا ما دفعكَ إلى ما قد يُعدُّ مُبالغةً، دينياً، إذ قلتَ: "لقد طفح كأسي بشرابٍ كريه، مرارته العلقمية تتفوق على كأس المر الذي سقوه للسيد المسيح وهو يقاسي آلامه الهائلة"،2 الأمر الذي جعلكَ تُناجي الموتَ بقولك: "حبيبي الموت"، ثم تُضيف: "تمنيتُ أن تمرَّ بسرعةِ الخاطر دقائقُ حياتي، لتدنوَ ساعةُ مماتي."3
إلا أنَّ الموت بالنسبة إليك هو مجردُ عبورٍ إلى الكمال الذي طرّز روحك، فوهبتها تُحفةً فكريةً تُبهج العين، تُمنطق العقل، تُجنِّح الفكر، وتُنطِق مَن صَمَتَ وهو بعدُ حيّ!
------------------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "آمالنا أوهام" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1980)، ص 86.
2 المرجع السابقن ص 94.
3 المرجع السابق، ص 98.
-----------------------------------------------------------
دكتور داهش،
حَسِبوكَ صومعةً مداريَّة، إذ قرأُوك فتصوفوا. آمنوا بكَ، فتحلقوا في هزارٍ دُواريٍّ، اسكَرَهُم انتشاءً ما بعديًّا، قربهم لدقائقَ ميسانية من تشهب فكرك الوقاد.
إلا أن أولئك لم يرد على بالهم، ولو للحظات، أن النار تشتهي الاحتراق، أن الدكتور داهش يتمنى لو أنهن يحلقُ للنجوم1 ويندمجُ بالشمس ليتذوَّقَ لذَّة الألوهية!2 لا، لا تحكموا عليه بسرعة، وإن خُيِّل إلى بعضهم أن في كتاباته شيئًا من مخالفة المُسلماتِ الدينية. فهو يؤكد أن الله "هو الألف والياء، إذ هو البداية وهو النهاية"3.
جميعُنا، والحقُّ يُقال، خُلِقنا على صورة الله، إلا أن البعضَ محظيون بنعَم ربانية تفردوا بها، فاستفردهم تميُّزُهم. فإن قالوا نطقوا، وإن كتبوا زلزلوا، وإنْ تمرَّدوا هُدِر دمُهم، وإن صمَدوا جُوبهوا، وإن تحلَّوا بمشاعرَ إنسانية كُذبوا، وإن هدوا كُفِّروا. هذا هو قدر الاستثنائيين، نبوغُهم لعنة، تحررهم قيد، غيريتُهم مرفوضة، لا اعتياديتهم منبوذة، ونقاؤةُ تعاطيهم محجوزة.
والدكتور داهش فُسِّرَ غالباً بطريقةٍ مغلوطةٍ أساءت إلى هيكله الفكري، وأخافت كل من أراد اختبار تطلعاته غير الاعتيادية. لقد سمى الأشياءَ بأسمائها، لم يوارب، لم يساير، لم يُذعن للخطأ والمتسلطين، لم يُخفِ قدراته المذهلة، وعملَ على نشرِ دعوته الروحانية والفكرية والأدبية والفنية بأُسلوبٍ راقٍ ورائع. انفتح الدكتور داهش على جميع الشعوب، هَمُّه الإنسانُ النقيُّ والمُحِبُّ والمُكِبُّ على الخير الداعمِ للسلام الداخليِّ والخارجيّ.
أظنُّ أنَّه في تجلي صفاءِ روحه، شَعَر بالتماهي الأُلوهيّ، فأنشده على طريقة الحلاج الذي قال في قمة الوجد:
حوَيتُ بكلِّي كّلَّ كُلِّك، يا قُدْسي تُكاشفُني حتى كأنــــــــــــــــــك في نفســــــــــــي
أُقلِّبُ قلبــي في سِواكَ فـــــــــــلا أرى سوى وحشتي منه وأنتَ بـــــــه أُنســـــــــــي
فها أنــــــــا في حبسِ الحيـــــــــــــاةِ مُمَنَّعٌ عن الأُنس، فاقبِضني إليكَ مِنَ الحَبسِ
---------------------------------------------------------
1 انظر الدكتور داهش: "أناشيد البحيرات" (دار النسر المحلِّق للطباعة والنشر، بيروت 1980)، ص 29.
2 انظر"آمالنا أوهام"، ص 48.
3 المرجع السابق، ص 65.