الدكتور علي مرهج أيوب
كاتبٌ لبنانيٌّ. حاز إجازاتٍ في علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والحقوق، ونال دكتواره في الفلسفة. مارس التعليم الثانوي، وزاول الصحافة في جريدة "النضال" البيروتية. شغل وظيفة رئاسة ديوان المحاكم الشرعية. من مؤلفاته "الوظيفة العامة في لبنان: واجبات وحقوق" (جزءان)، "توطئة إلى الدستور اللبناني"، "المنطق الصوري، هل هو جزءٌ من الفلسفة أم عِلمٌ مستقلٌ بذاته؟"، "القضاء الشرعيّ وفق المذهبين السنيَّ والجعفري". وله مؤلفاتٌ مخطوطة قيد الطبع.
العقيدةُ الداهشيَّةُ لَيْسَت مُشكلة بل هي الحلّ
داهش يرتفع إلى مرتبة العلِّيِّين والربَّانيِّين
إذا اعتبرنا الداهشيَّة مذهبًا أو طريقةً في التديُّن، نخشى أن نُغفل حقيقة ما عبَّر عنه مؤسسُها، أعني الدكتور داهش: "أشعر بأني أحوي في أعماقي قُوًى روحية خفية هائلةً تودُّ الانطلاق لتقومَ بعملٍ خطيرٍ عظيمٍ، ولكني أكبتُها إلى أجلٍ معلوم".
فالداهشية ليست ابتكارًا نابعًا من الذات أو تزايدًا في الوعي، أو محاكاةً لنماذج عُلويَّة؛ إنما هي وعيٌ بقُوًى روحيةٍ هائلة تريد أن تنطلق لتقومَ بعمل خطير وعظيم، تدمِّر ما هو كائنٌ وتبني ما يجب أن يكون. وهي قد تحمل في انطلاقها ملامحَ أو خصائصَ قد تكون وليدةَ ما نستطيع أن نسميه الطابعَ الإلهيِّ الربّانيَّ والشخصيَّة الإصلاحية التي هي، كما نعرف، حالَّةٌ أو كامنةٌ في أعماق الإنسان المصطفى أو المختار قُوًى روحيَّةً خفية.
وإذا كنا نتفق على وجود خصائصَ مميزةٍ "للشخصية" في مضمار الوجود البشري العادي، فما الذي يمنع أن تتحد هذه الخصائص أو بعضٌ منها في المضمار الروحيِّ لتؤكد مباشرةً الملامح الربانية عند شخصٍ معين كمشروع إصلاحيٍّ رساليّ، يدعوه الله ليُنذرَ الناسَ شارحًا، ومحرضًا ومشددًا على الثبات في شريعته تعالى؟
وما الذي يمنع أن يتباطأ، في هذه الملامح الإصلاحية، كلُّ مُصلحٍ أو داعٍ، في نشر أو إطلاق دعوَتِه رَيثما يأزفُ وقتُها؟ فهل تتحكَّم بالإنطلاقِ والظهور الإرادةُ الذاتيةُ لداهش أمِ الإرادةُ الإلهية؟
المنطق يقول: إن مَن أوجدَها أولى بها ممَّن يحملُّها! في حقيقة الأمر لا نستطيع أن نفصل بين إرادة الفرد المُعين إلهيًّا لوظيفةٍ إلهية، وبين إرادة الله، لأنَّ الإلهام الإلهي هو صاحبُ السلطة والمحرك الفاعل، ولا ينبغي لنا أن نتحدثَ عن قُوًى فوق مستوى البشر، كونُ المعينِ الملهَمِ إلهيًّا هو فوق المخلوقِ ودون الخالقِ المتعالي. وفي الوقت الذي نجهل المصدر، علينا أن لا نُنكِرَ الرؤيا ولا الرأي؛ بمعنًى آخر، أن لا نُنكِرَ الرسالةَ كونَها إصلاحية. ومع ذلك، فإنَّ اختلافَ الشخصيةِ الروحيةِ عن البشرية العادية يعني، على كل حال، أن الأُولى تسلكُ مسلكًا مغايرًا لبني جلدتها البشر، فإن اتفقا بالجلدةِ حتمًا اختلفا بالروح.
ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ تُراثَ داهش الهائل يُشير إلى أن ثمة اتفاقاً مبدئيًا على الأقل حول ما يمكن ان يكون اتجاهًا إصلاحيًا متفقصا مع ما سبقَه من حيثُ الدعوةُ لإعلاءِ. كلمة الله. هنا تُصبح التعاليم والأفكار الدينية عنصرًا مشتركًا بين داهش والرسالات السماوية، إذ إن الغاية والهدف واحد. وفي هذه المنزلة والغاية والهدف يرتفع داهش إلى مرتبة العليين والربانيين.
قَسَمُ الدكتور داهش وعهدُه
لذلك كان قَسَمُ الدكتور داهش تُرجمانًا لِما تقدَّم، ودلالةً على أن ما يقوم به من عملٍ سام إنما يقوم به دون ترددٍ أو تأفُّف، استجابةً للإرادة الإلهية دون سواها:
"أُقسمُ بك، يا خالقي، أنه لو وُجد ملايين من الأغبياء المارقين، أو الخونة المماذقين، وملأُوا طروسَ الأرض، لا بل لو نقشوا حجارة هذا الكون بأسره قائلين بها:
" إن رسالتي هذه غير صادقة،" لمشيتُ رافعَ الرأس، موفورَ الكرامة. وسأبقى على تبشيري وإذاعة رسالتي حتى تعُمَّ الأرض، وتنتشرَ في السماء أيضًا. ولن تثيني البرايا بأسرها عن أدائها، يا الله، ما دمتَ أنتَ تمدُّني بقوتِك الإلهية.
وهذه يميني، يا خالقي، أرفعُها لكَ من أعماق قلبي الذي لا يخفُقُ إلا بذكر اسمِك القدُّوسن برهبةٍ وخشوعٍ كليين"1
ولكن الأمرَ لا ينتهي عند هذا، فالدكتور داهش يقول على لسان الناصري: "... وأنا لا أصطدمُ سوى بكلِّ نقيصة، وكلِّ رذيلة... فقد قطعتُ على نفسي عهدًا: أن أسيرَ على طريق الحق، طريق الحب الإلهي، طريق النور السماوي، مهما اعترضتني الخطوبُ والنائبات... فمهما اضطهدت، ومهما عُذبتُ، ومهما شقيتُ، ومهما بكيتُ، ومهما أصابني من رزايا وكروب، فلن أترُكَ من يميني مِشعلَ الحقيقةِ المُعطى لي من أبي السماويّ، كي أُنيرَ به جنبات هذا العالم الكثير لظلام"2.
وبهذا نجدُ أنفسنا وبعُمق، أمام شخصية داهش وي تحمل صفاتٍ إنسانية خارقةً للعادة، ليس كغيرها من بني البشر. هي شخصيةٌ أعدَّت لتنير جنبات هذا العلام الكثير الظلام. فالدكتور داهش، ذو القدرات والاستعدادات التي خصة الله بها، لا نملك إلا أن نربط بينه وبين السلفِ الصالح من الهداة وبين آخرين قليلين من قبله ممن ساروا على دربِ الجُلجُلة، درب الهداية الخالصة لوجهن الله.
الداهشية عقيدةٌ إيمانية، فكرية، متكاملة
لا يهمنا، الآن، أن نبحث هل دفع الدكتور داهش ثمنًا يزيد أو يتساوى أو ينقصُ عما كان ينبغي أن يكون. فهو قد بدأ فقيرًا، يتيمًا، يتيمَ الأب الدنيوي، ولكن هو ابن بارٌّ لخالقه ولأبيه السماوي الذي منحه نعمة الأبوة الإيمانية. لم يخلص إلا له. لا أدعي معرفته شخصيًا وإنما عرفته في آثاره وفي ما قرأتُ عنه. فمُعايشتهُ لأتباعه ليس فيها غموضٌ أو إبهامٌ أو ظلال، وليس فيها خبايا أو زوايا مُظلمة. كما قرأتُ عن ظاهراته الروحية الكثيرة، وقرأتُ ما قيل فيها من أنها شعوذاتٌ أو غيرُ ذلك. يمكن أن نختلف في تفسيرها ولكن لا نستطيع إنكارَ حُدوثَها. فهي، كما قرأتُ عنها، خَرقٌ دامغٌ لقوانين الطبيعة المألوفةِ عند العامة والخاصة على السواء. وهي متولدةٌ، لدى من آمن بها، عن
---------------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "ذكريات الماضي" في سلسلة "حدائق الآلهة توشيها الورودُ الفردوسية" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1980)، ص 57 – 58.
2 الدكتور داهش: "مذكرات يسوع الناصري" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1980)، ص 14 – 15.
---------------------------------------------------
قوى خاضعة لقوانين متعالية على قوانين الطبيعة، لا تخضع لمقاييس مادية قع تحت قوى خاضعة لقوانين متعالية على قوانين الطبيعة، لا تخضع لمقاييس ماديةٍ تقع تحت الحواسّ أو أدواتِ المعرفة العلميَّة، أو البرهان العقلي، إنما حدوثُها يدلُّ على مصدرها الروحيِّ لاثبات وجود الله والروح وأصلِ الإنسان ومعنى وجودِه، والخيرِ والشر، والحياةِ والموت، وارتباط النفس بالبدن، والروح بالمتعالي مُبدعِ الكون، وارتباط الإنسان بربه، وغيرِ ذلك... وهي منظومةٌ من القيم الأخلاقية تُخاطبُ الفرد والجماعة في نفسٍ توجيهي وإرشادي. تلك الظاهراتُ قد عززت العقيدة الداهشية التي هي عقيدةً إيمانية، فكريةٌ، متكاملة.
وفي اعتقادي أن الظاهرات الداهشية لا تخضع لخفةِ يدٍ وليست مُكتسبة أو خاضعةً لقواعدَ مهنيةٍ أو حرفيةٍ أو علمية، تلقن من إنسانٍ لإنسانٍ، بل مصدرها قوة روحية ينبوعها "الروحُ" كمعرفة كاملةٍ لخير مطلقٍ. فهي وسيلةٌ بحد ذاتها لغاية إثبات العقيدة الداهشية ليؤمنَ بها البشرُ فيعملوا بمقتضياتٍ ما جاءت لأجله. فإن صح ما قرأتُ عنها (تحويلُ النحاس إلى ذهب خالصٍ ثابتٍ باقٍ ما دام حفظُه، أو معرفةُ المستقبل بتفاصيله، أو زرعُ بذرةٍ في الأرض فتنمو في الحال شجرةً مثمرةً وارقةَ الظلِّ وتستمرُّ في العيش كأي شجرةٍ بذرةٍ في الأرض فتنمو في الحال شجرةً مثمرةً وارفةَ الظلِّ وتستمر في العيش كأي شجرةٍ أُخرى، إلخ...) نقول: أين الشعوذةُ والصدفةُ من هذه الظاهرت التي يصحُّ أن نطلق عليها "معجزات" والله أعلم.
وعلى هذا، نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن لا نستغرب أن ينكرها بعضُ العقول وينسبها إلى الغش والخداع لأنها خرجت عن المألوف وعن القوانين الطبيعية. ومن المسلم به أن نرى الناس ينقسمون حول الدكتور داهش بين مؤيدٍ مؤمنٍ به وبين عدوٍّ حاقدٍ عليه. ولم يكن ذلك إلا إظهاراً لعظمةِ هذا الإنسان الذي انقسم الناسُ فيه فريقين، أو صمتوا يومَ شنتِ الدولةُ الطائفيةُ حربها الشعواءَ عليه تجاوبًا مع بعض رؤساءِ الطوائف وحسادِه.
هنا تُصبح المعجزة أو الظاهرة ضرورةً يصعبُ إغفالُها كونها حُجة دامغة على صحَّة المصدر الروحي للعقيدة الداهشية، لأن المعجزة هي أقصرُ الطرُقِ التي يمكن أن تؤدي إلى حقيقة الإيمان. وبالتالي يمكن التحقُّق من وجود الروح عن طريق المعجزة.
فالمعجزة من آثارها؛ وآثار الشيء تُنبئُ عن وجوده. إنك لا ترى الريح، ولكنك تشعر بوجودها إذا ما رأيتَ الغصن يتحرك. فمن طريق أعمالها المعجزة يمكن أن تتحقق من وجودها وقدرتها الفائقة.
يقول الدكتور داهش: "الظاهراتُ الروحية إنما تتمُّ لأجل إدخال الإيمان في القلوب، وليس للأفادة، المادة، والاستفادة على الإطلاق؛ أي إن الظاهرة لا تحصل ليبتهج المشاهدُ بما شاهدَ، لكنه يدخلُ كافرًا ليخرج مؤمنًا بربه وبيومه الآخر".
داهش مؤسسةٌ فكريةٌ قائمةٌ بذاتها: "السيالات قوامُ الموجودات كلها"
والذي يستعرض آثار هذا الرجل الخارق يجدُه مؤسسة فكريةً قائمةً بذاتها. فكيفما سألت تجدُ جوابًا، كمحرابٍ يدعوك بقوةٍ إلى الإيمان به لكون صاحبن متحررًا من قيود الزمان، وحدود المادة والمكان؛ كأنما اللهُ قد خلقه لكل زمانٍ ومكان. كلُّ زمانٍ ومكان. كلُّ هذا لم يكن إلا مظهرًا من مظاهر شخصيته العجيبة في أفكاره وأعماله وأقواله، في توجيهه وتعليمه، الأمر الذي جعل منه معلمًا، وهاديًا وحبيبًا.
يعتبر الدكتور داهش أن الروح قوةٌ عظيمة مفارقة لا يشوبها أي تكثيف "مادي". وهي، بهذا المعنى، لا توجد إلا في عالمها وراءَ الأفلاك المادية كلها. وهي من أمرِ الله تعالى. وإلى ذلك أشار القرآن الكريم إذ قال: (يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أُوتيتُم من العلم إلا قليلاً) (الإسراء: 85).
ويقول داهش إنَّ الإنسان لا تسكنهُ روحٌ بهذا المعنى، وإنما ينطوي جسدُه على "سيالات" روحية، أي قوى إشعاعية روحية منبثقة من الروح، ومظهرها المكثف هو ما نسميه "مادة"، وإن "السيالات" الروحية ليست وقفًا على الإنسان، بل هي قوامُ الموجودات كلها، وما الوحدةُ التي اكتشفها العلمُ بين الإنسان والحيوان والنبات والجماد إلا نتيجة وجودِ هذه السيالات في مظاهر الكون جميعًا. ويتابع أن الاختلاف بين الأشياء والكائنات في تكوينها وطبائعها يعودُ إلى تباين السيالات التي تكونها في لطافتها وكثافتها وقوتها وضعفها، وبتعيرٍ آخر إلى رقيها الروحي أو انحطاطها؛ الأمر الي يستلزم مراتبَ ودرجات عند السيالات. ولولا ذلك، لكان الإنسان والحيوان والنبات والجماد واحدًا.
وللسيالات الروحية، في رأي الدكتور داهش، استمرارية البقاء، لأن الحياة هي صفة لإ ملازمة لها. وإذا كان كلُّ كائنٍ حيٍّ يتألف كيانُه النفسي من مجموعة سيالات، فالموتُ يحصل آنَ يغادرُ آخِرُ سيالٍ روحيٍّ الشكل الجسمي. أما كيفية الموت التي نعرفها في الأرض، فليست هي نفسها التي تحدث في الكواكب والنجوم الأُخرى، فلكل كوكب أو نجم طرُقهُ وأنظمتُه الخاصة في الموت كما في الحياة. ولكن مع اختلاف الكيفية، يبقى الموتُ في جميع العوالم يعني لحظةت الانتقال من طورٍ آخر بعد أن يفقد الشكلُ السابق ليتخذ شكلٌ جديد قد يكون قريبًا أو بعيدًا من ذلك، ولكنه لا يكون في أي حالٍ نفس الشكل السابق تمامًا.
ولكل سيَّالٍ رغباتٌ وميولٌ لاصقةٌ به كونه قُوًى حيَّةً فاعلة، وبالتالي لا تندثرُ بعد الانتقال من طورٍ حياتيٍّ إلى طورٍ آخر، بما اصطُلِحَ على تسميته "بالموت". هذه الميول والرغبات ترافقث السيَّالَ الذي تكون فيه، كجُزءٍ منه، إلى اتخاذ الشكل "المادي" الجديد؛ وفي وضعها الحاص تكون غير واعية تؤثر في سلوك الكائن وفي طريق حياته، وفي تعيين ثوابه وعِقابه، من غير أن يتذكر شيئا منها. ويجب على الإنسان أن يهذِّبَ رغباتهِ ويسموَ بأفكاره، ويُرقي مجموع سيالاته ابتغاء مَرضاةِ المتعالي، لأن لا شيءَ يفني مما تحمل النفسُ لحظةَ الموت، بل كل الأفكار والميول سيكون الإنسان مسؤولاً عنها في دَوره الآتي.
والداهشيةُ تؤمن بخلود النفس وبالآخرة والثواب والعقاب وبالتقمُّص حتى التظهُّر الأعلى الذي يحولُ دون رجوعنا إلى العوالم السفلية والذي يجمعنا مع الله سبحانه في عالَمٍ طاهرٍ سام، لا دنسَ فيه.
المجتمعُ الداهشي أو الأُسرةُ الإنسانية
ومهما يكن من أمر، فإنَّ المجتمع الإنساني في عقيدة داهش يختلف كليًا عما هو كائنٌ الآن. فعلى ذلك نقرأُ الإنسان عنده ماهيةً روحيةً قبل أن يكون جسدًا ماديًا، ترتفعُ نحو المتعالي ليخرج من شرنقة المادة فيظهر في الوجود نتيجة للإرادة الروحية. وفي رأيه أن قيامً العلاقات الإجتماعية وفق السنن الإلهية تساعد على قيام مجتمع إنسانيٍّ مثالي كما أرادَه الله سُبحانه. وتتمثل هذه العلاقات الإيجابية في الحب والعدل والحق وما إلى ذلك من روابط ساميةٍ تساعد على خلقِ ونشأة وظهور الجماعات الربانية. ونظرًا لأن هذه العلاغقات الإيجابية هي علاقاتُ سلام بالضرورة، فإنه يتعينُ على الأفراد أن يكونوا مؤمنين بالله ومقيمين في مجتمع سام لا دنسَ فيه.
ولم يكن داهش "المعلم" أو من نادى به، وإنما نجد ما يُماثله عند أصحاب الرسالات السماوية؛ فنجد أفكاره في الديانة اليهودية والمسيحية من خلال "الوصايا العشر"، وفي تعاليم الديانة الإسلامية. ولكن الذي يميِّزُ الدكتور داهش هو أنَّه يجمع بين الديانات لأن منشأها واحدٌ، هو سُبحانه الذي أنشأ التشريع الاجتماعيَّ والتفسير الكونيَّ والاستباقَ. وفي هذه الديانات فوق ذلك الدينُ الحق، وفيها جوهرُ العقيدة الداهشية القائمة على دعوة توحيد الأديان لأن الشرائع السماوية تتلاقى بدينٍ واحدٍ وبدعوتها إلى توحيد الله والإيمان به. وفيها إقرارٌ بالحق والأخلاق الفاضلة التي تلاقت عليها جميعُ الشرائع. لذلك تتوحد الشرائعُ في الأحكام المشتركة بينها. فهي تعاليمُ مختلفةٌ باختلافِ الأُمم من حيث أحوالُها ومصالحُها ومدى استيعابها وتقبُّلها للأحكام الإلهية. وهي محدودةٌ بما هو الأهمُّ والمناسبُ لحالِهم والموافقُ لمبالغِ استعدادهم.
وقد بيَّن الله تعالى ذلك بقولهك (شرَّع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى). (الشهورى: 13) فاللازم من هذه الآية أن الدين واحدٌ، ومنه كانت الشرائع. ولكل نبيٍّ شريعةٌ خاصةٌ به موافقةٌ لحالِ قومه ومصالحهم: (لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا). (المائدة: 48).
إذا أردنا معرفة "ماهية" الواقع الاجتماعي وطبيعته عند "داهش" نجد أن المجتمعَ الإنساني خارج عقيدته، وما هو عليه الآن، يختلف كليًّا عما هو عليه هذا المجتمع في الدعوة الداهشية الذي لا يطلب صاحبُها من الداهشيين إلا أن يؤمنوا بالله وبرُسله وبملائكته وباليوم الآخر، وأن يكرسوا أنفسهم لعمل الخير حتى آخر رمقٍ من حياتهم حتى ولو لاقوا في سبيل ذلك اضطهادَ الملاٍ كلِّه.
ففي كتابه "مذكرات دينار" عالج الدكتور داهش نمطين من الحياة الاجتماعية بأسلوب مقارنٍ بين الخير والشر بمنهجٍ استقرائي، مبينًا حقائقَ العلاقاتِ الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع الذي عايشه؛ ذلك المجتمع الذي تنخرُه الصراعات، ويسودُه التفكُّك والتفسُّخ، فتولدتِ الحروب الطاحنة على امتداد الكُرةِ كلها. فأصبحتِ المادة هي الأداةُ القاتلة للقيَم، وأصبحتْ سِمةَ العصرِ، وأصبح الناس غُرباءَ بعضُهم عن بعضٍ.
ولكنْ هناك حلولٌ يقدِّمُها الدكتور داهش في كتابه "مذكرات دينار". فهو يخاطب ساسة العالم:
"إن على ساسة العالَم في أربعة أقطارِ المعمو أن يبنوا (عالمًا) واحدًا) إذا رغبوا في أن يسودَ السلام العامُّ أرجاءَ هذه الكرةِ اللعينة... فالاتفاق العامُّ بين زعماء الممالك الكبرى وملوكِ الدول القوية؛ وإجماعُ الآراء المخلصة، لا المزيفة، حول هذا الموضوع البالغ في خطره وجلال قدره وشأنه؛ وطرحُ الأطماع جانبا من الجميع في سبيل سعادة الأُسرة الإنسانية؛ وعدمُ التكالب على المادة بجشعهم الجارف الخطير؛ وبنيانُهم قانونصا عالميًّا شاملاً يُدخلون فيه الدول الصغرى التي تنقادُ إلى آرائهم؛ وتوحيدُ أهدافهم السامية ومُثُلِهم العُليا... هو ما يؤدي إلى السلام العام"1
والذي يريد "المعلم" داهش أن يخلص إليه، من هذا كله، هو عالمٌ واحدٌ تسودُه العدالةُ والسلامُ الشامل في سبيل سعادة الأُسرة الإنسانية.
------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "مذكرات دينار" (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1986)، ص 108 – 109.