الدكتور أسعد دياب
قاضٍ لبناني، حاز دكتوراه دولة في الحقوق (كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية). زاول التدريس في معهد الدروس القضائية وفي عدة جامعات بلبنان. تولى رئاسة معهد القضاء (1984 – 1992)، ورئاسة الجامعة اللبنانية (1993 – 2000)، ووزارتي المالية (1992) والشؤون الاجتماعية (2000 – 2004).
من مؤلفاته: "ضمان عيوب المبيع الخفية" و"السجل العقاري" و"التأمينات العينية" و"العقود الخاصة".
الداهشية نزعةٌ إنسانية1
في التاريخ لحظاتٌ بهيةٌ تجدد فيها الإنسانية إيمانها بالله. فهي نظامُ الطبيعة كاملاً قبل أن شوهناه، ووجودُنا البشري قبل ضعفٍ ورِثناه، والعافية الأولى التي يصلُنا منها بعض الوجوه فندنو من الجوهر.
ومن تلك الوجوه كان الدكتور داهش الذي أُوتي قوةً روحية أثارت جدلاً حولها، فملأت الدنيا وشغلت الناس. وككل قوةٍ يمكن استعمالها للشر كما يمكن استعمالها للخير, ولكن داهش لم يستعمل هذه القوة لغايةٍ دنيئةٍ أو مادية، بل استعملها في سبيل الروح بهمةٍ شماء لا تعجزُ ولا تيأس، واندفع في عدوِه الصاعد لا تلينُ له عزيمة، وذلك برغم الاضطهاد والظُّلم اللذين نزلا به، متمثلاً بقول جمال الدين الأفغاني:
أنا إن عشتُ لستُ أعدمُ قوتًا وإذا متُّ لستُ أعـــــــــــــــــــــدَمُ قبــــــــــرا
همتي هِمَّةُ الملــــــــــــــــوك، ونفســــــــــــي نفسُ حُرٍّ لا ترتضي الأسرَ قسرا
فكل من يرغبُ في الأرضيات يتزلف ويُداهن للوصول إلى غايته. أما رجلُ العقيدة الراسخة، ورجلُ الإيمان بالله وبالحق وبالعدالة والقيم الروحية فهو جبارٌ لا ينحني ولا يُراوغ، بل يصمدُ ويصبر حتى تسطعَ الحقيقةُ أمام الملإ دون كلال أو ملال، فيصحُّ في
---------------------------------------------------
1 لعل هذه الشهادة هي آخرُ ما خطه قلمُه؛ فقد وافته المنية والكتاب في طور الإعداد للطبع. (الناشر).
----------------------------------------------------
لذلك قولُ الشاعر:
زفا كم جدَّ في أمرٍ يحاوله واستخدمَ الصبرَ إلا فاز بالظفر
ولذا آمن الدكتور داهش بصلاح الروح أساسًا لكل إصلاح.
فالأنظمةُ مهما كانت صالحةً لا تؤدي وحدها إلى الإصلاح الحقيقي إذا كان الإنسان فاسدًا (إنما الأعمال بالنيات). فالإنسانُ وجِدَ أولاً، والنظامُ كان من أجله. وهل يمكن بناءُ صرح متين مهما كانت عبقريةُ مهندسة، إذا كانت حجارتُه سريعة التفتت؟ وماذا تنفعُ الكأسُ وإن تكن ذهبًا، إذا كان الماءُ فيها فاسدًا؟ وما نفعُ اللوحة البشعة إذا أحيطت بإطارٍ ثمين؟
فالإنسان مزيجٌ عجيب من روحانية عميقة وعقل متطلب وجسمٍ مادي. فقد روى آندريه مُوروا في كتابه "أشياءُ عارية" هذه الطرفة. قال ما مضمونه: معلومٌ أن العلامة آنشتاين انصرفَ في آخر أيامه إلى التفتيش عن قاعدةٍ كونيةٍ واحدة تشملُ كل أحداث الطبيعة وأسسها العلميَّة، فجند لهذا الغرض عددًا من الأدمغة الإلكترونية. وبينما هذه الآلات تدورُ وتقذفُ بالصفحات المشحونة بالأرقام، مات آنشتاين، وظلَّت تلك الآلاتُ تدور، وحُرِم العالمُ، في موته، هذا العمل.
ويقول مُوروا: ربَّما كان سرُّ الكون المنشودُ بين هذه الصفحات التي لا يُحسِن قراءتها أحد. ثم يُنهي موروا طُرفتَه بقوله: قد تتوقف هذه الآلاتُ يومًا بعد أن تكون قد طبعت على إحدى هذه الصفحات أحرفا أربعة لا غير "ا.ل.ل.هـ".
هذا ما آمن به الدكتور داهش.
وانطلاقاً من حقيقة جوهر الروح، يتبنى داهش وجوهَ الأديان في عُمقها وجوهرها. فالأديان جميعُها من إرادة الرحمن، ويُقتضى احترامُها على السواء، فلا تستعمل أداةً لبغضاء أو تفرقة، بل هي أداةُ تقاربٍ وتسامُح ومحبة، كما جاء في القرآن الكريم: (إنما المؤمنون إخوة)، وكما قال السيد المسيح: "كلكم إخوة". وكما جاء في الحديث الشريف: "الإنسان أخو الإنسان أحبّ أم كرِه".
ولذا دعا داهش إلى الانفتاح الفكري والديني القائم على مبداٍ وحدةِ الأديان. وقد عبر عن ذلك الشاعرُ الداهشيُّ حليم دمُّوس في ديوانه "يقظةُ الروح".
حقائق إنجيلٍ وآياتُ مُصحَفٍ لتعزيزِ أديانٍ حِسانٍ شقائق
تعاليمُ موسى والمسيح وأحمــــــدٍ كينبوعِ نـورٍ بالسعادةِ دافقِ
فإصلاحُ المجتمع والإنسان يكون بالحل الذي أوحاه الله بالعودة إلى جذور الإيمان الصحيح بوحدة الأديان وجوهرِ تعاليمها دون الالتزام بالفروق غير الجوهرية. وبذلك يقوى المسيحيُّ بمسيحيته والمسلمُ في إسلامه متى سارا على قيمٍ روحية ثابتة.
"فالله ينبوعٌ، والأديان جداولُه".
ما يلفتُك بالدكتور داهش ولَعُه بالثفافة الواسعة والفن والجمال. فقد اقتنى مكتبةً من أكبر المكتبات الخاصة في لبنان، وعزَّز رسالتُه بتأليف العديد من الكتب. ومَن يطلع على عبقرية هذا الشخص وثقافته الواسعة يتعجب كيف تأتى له ذلك بالرغم من أنه لم يدخل المدارسَ سوى بضعة أشهُر كانت كل فترةِ دراسته، الأمر الذي يدلُّ على موهبته الفذة. فقد تميزت كتاباته بالنزعة الوجدانية والروحية وأدب الخاطرة والأدب القصصي والديني وأدب الرحلة والسيرة الذاتية وأدب المراثي والهجاء. وكتب في النثر والشعر. وقد بلغت مؤلفاته في النثر ثلاثةً وخمسين كتابًا، وبلغت في الشعر عشرة دواوين على الأقل.
وقد أولى الفنونَ الجميلة اهتمامه، فجمع ما أُتيح له من كنوزها التي يضمُّها "متحفُ داهش للفنون" في مدينة نيويورك. وكان يهوى تزيين كتاباته باللوحات الفنية التي ابتدع فكرها بنفسه ورسمها مشاهيرُ الفنانين الغربيين.
إن من يطلع على هذا الفكر الوقاد وعلى موهبةِ هذا الرجل وعلى ثقافته الواسعةت ورغبته في الإصلاح يأخذه العجب كيف جرت محاربته واضطهاده بدل أن يشجع ويُساعَد ويُسنَد ليُعطي؛ وما أكثر عطاءه في سبيل الإصلاح والإبداع وخيرِ البشرية، ولا سيما أنه من يد الله تلقى قيثارة عطائه.
فأعمالهُ فرح إلى ربِّة ثم طريقٌ إلى الخير، فما أقربه إلى حاجات الناس.
وأبلغُ وصف جاء على لسان الدكتور نجيب عشي الذي قال فيه:\
"أراه مثال اللطف والأخلاق العالية والعواطف النبيلة.
رأيته رجلاً دأبه الصلاح والإصلاح.
رأيتُ نفسه جياشة لإعانة الفقير والمظلوم.
وحدتُه رجلاً وديعًا رصينًا هادئًا.
ألفيتُه ناسكًا للروحانية والحكمة،
عاشقًا للكتب المقدسة على اختلافها.
عرفتُه أديبًا فكاتبًا ففيلسوفًا.
عرفته رجلاً مصلحا داعيًا الجميع إلى المحبة والخير".
لقد وقف الدكتور داهش عند إصلاح المجتمع، يقرأ على صفحات الكون وعينُه في وجنه الناس، فبدا في قلب الذين يتوقون إلى رضى ربهم فراح يُشرفُ من عَلٍ على حقبةٍ من تاريخ الروحانية الفاعلة في هذا الشرق العربي.
كان من كبار الساهرين في غفوات الناس، ومن العيون الواعية في ليلِ الإنسانية الطويل.
صديقُ الإنسانية هو، يسقطُ أمامه كلُّ سلاح. فمعه لا يصحُّ الانتقامُ ولا الظُّلم، بل إشاعةُ سماح وسمو تعاليم. فله بسطةٌ على الأيام، ففتح أمام أهل زمانه أبوابَ هياكلِ الحقِّ والمعرفة والجمال.