الأستاذ نعيم تلحوق
صحافيٌّ وشاعرٌ لبناني. مُجازٌ في العلوم السياسية من الجامعة اللبنانية. عمل في الصحافة سحابة عشرين عامًا، وشغل فيها مناصب متعددة، منها إدارة تحرير مجلة "البناء"، وإدارة تحرير مجلة "فكر". رأس "جمعية الشباب الوطني في لبنان"، وهي جمعية ثقافية. يرئس دائرة الإنتاج الفكري والأدبي في وزارة الثقافة اللبنانية.
له عدة مجموعات شعرية، منها "هي القصيدة الأخيرة"، "وطن الرماد"، "أظنُّه وحدي"، "يُغني بوحًا". وله كتب أدبية فكرية تتعاطى النقد والشأن الأدبي والثقافي.
نظرية التقمُّص ومفهوم الميتافيزيق
في الأدب الداهشيّ
إن مفهوم العدالة الإلهية الذي تكلَّم عليه الدكتور داهش، في مرحلةٍ بدت فيها البيئات الاجتماعية والسياسية في موقع شكِّ تجاه معنىت الروح وأبعادِ الوجود برمته، هو مفهومٌ تجذيريٌّ، أراد منه في الثلث الأخير من القرن العشرين أن يعيدَ الاعتبار إلى فكرة التناغم المادي – الروحيّ مع الحياة الإنسانية (والوجود).
إنَّ أهمَّ تجربةٍ يخوضها العقل هو كيف يتحدى خوفه، لا سيما الخوفُ من الموت. ويبدو أنَّ من جملة ما قامت به الديانات السماوية أنها عاقبت الحياة بالموت دون خلق مبررات الطمأنينة للنفس البشرية. فبالاطمئنان تنمو الروح وتكبر وتمتد، وتخلق ذاتها مجددًا لتعيد استقلالها مرة أخرى.
يُستفاد من هذا الكلام ما قرأتهُ من "قصص غريبة وأساطير عجيبة" عند الدكتور داهش الذي جسَّد فهمه للحياة من منظورٍ إنسانيٍّ خالص، منبثقًا من القدرة التي تعني – فيما تعني – العدالة الإلهية التي هي محطُّ أنظار المكنوناتِ البشرية والحيوانية والنباتية، حتى كلِّ ما هو جماد قطعًا ... بسبب أنَّ الهيولى الأّولى هي النار التي منها خُلِقت الأشياء، وإليها تعود. هنا يأخذ الإنسان صفة الارتقاء. لهذا قيل في فلسفة المسيحية: "يسوع ابن الإنسان"، أي الشامل من الوجود.
الدلالةُ الساطعة على مفهوم العدالة الإلهية هي نظريَّةُ التقمُّص التي أوضحها الالدكتور داهش عبر رسالته الإنسانية، وضمنَ أقاصيصه المنثورة منها والشعرية، ليفتحَ الباب واسعًا على قضيةٍ ذهنية يُستفاد منها في الفعل العقلي كمادةٍ تخرج من العناصر الضيقة والحوادث المُضحكة أو المبكية، ليُناط بها الفعلُ المعرفيُّ عن أسباب وجودنا:
الحكمة والتأمل والاستبصار والتجربة والتمرين للغوص في معنى السر وكشف الحجاب... فكلما أمعنا التبصر وأوغلنا في كُنه المعنى بالعقل، تكشف لنا ما في قلوبنا وغريزتنا من معنًى جدبد لأخذ العبر والعِظات. وقد يكون ذلك من خلال أدوارٍ سبعة، كما تدل عليه الفلسفةُ التوحيدية، أو قد يكون 6000 مرةٍ، كما عند الدكتور داهش، بغية تطهير النفس البشرية من أدرانها. هنا يكون الله قد أعطى الفرصة الكبيرة لنا كي نقابله.
وبالتأكيد لن نعرف ماذا يُقصَد بالدور عند الموحِّدين، ولا بالـ 6000 مرة كعددٍ أو كخطوة؛ وما هو مفهومُ الرقم؛ وماذا تعني مسافة الخطوة التي يجب أن يقطعها البشريُّ للوصول. ربَّما المقصود هو عدد ذرَّات البصمة – النعمة التي تجتمع في إبهام الآدميّ ليُحقِّقَ معنى البصمة الواحدة على مدار الوعي الإنساني!...
كيف كشفّ الدكتور داهش، باكرا، هذه المعرفة الكبرى؟
من المؤكد أنه قرأ بعقلٍ واصب؛ كتبَ بروحٍ صادقة وبقلبٍ واسع، فاعتبر أن العدالة الإلهية تتجسد على الأرض مُنطلقًا لترسيخ عالم الوعي للانتقال من الدُّونيّ غلى السما العُلوي، فحاول إدراك الغامض بالسعي للوصول إليه عملاً بالآية الكريمة: (مَن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يرَه). فالله لا يمكن أن يستقبل الأنفُسَ البشرية إلا بصفائها الكلي.
لذا، لا تحقُّ عدالته إلا إذا أعطى الإنسان فرصةً أن يكون حرًّا ليَعي، وليتعلم من أخطائه. فإذا رسب في الامتحان، أكمله في القميص الأخرى، أي في لباسه الآخر، كي يُحرِّرَ عقدَه الدونيَّة ليرتقي، عبر استبداله مبناه ليكتمل معناه.
وأنا أُؤمن، كما الدكتور داهش، بأن هذا العالم الكبير هو صورةٌ لنا لتمتد آفاقُنا وقراءتنا وسعينا نحو السموّ. وليس بالضرورة أن يكون البشريّ منقولاً من بشريٍّ إلى آخر، كما في عقيدة الموحدين، وإنما يمكنُ أن يكون باستبدال قميصه ببينةٍ أخرى كالحيوانات والنباتات، كما في الفسلفسة الإسماعيلية والعلوية؛ وهذا ما تثيره المدرسة الداهشية في معتقدها (النسخ والمسخ والرسخ). وقد عبر عن ذلك الدكتور داهش شِعرًا في فندق بدفورد في باريس من خلال قصيدةٍ له بعنوان "العدالة الإلهية"، حيث يقول:
"جوزي فمُسِخَ كلبًا هزيلاً تعيسًا شريدًا.
عواؤه دوَّى في الآفاق، ونباحه أزعج الخلائق.
لو كان مستقيمًا لما انقلب كلبًا طريدًا،
ولَكان يرفل بفتوَّةٍ نضارتُها رائعةٌ وجمالُها فائق".1
من هذا المطرح، ندرك أبعاد المشهد المُناط بنا تفسيره. وقد ذكَّرتني هذه القصيدة بكلام لأبي عن جدي كان يردِّدُه لي دائمًا قبل أن تعياني مصيبة: "يا بنّي، لا تخشَ من نيَّة الناس عليك. إن جُلَّ ما يجب أن تخشاه هو من نيتك على الناس"؛ أي أن لا تُضمِرَ سوءًا الأحد، ولو ضمَرَ الآخرُ لك هذا السوء. لا تعذرْ، لا تقتلْ، لا تكذبْ، لا تسرقْ، ولا تشكَّ... لا تخفْ من أحد إذا غدرَ بك، أو سرق منك، أو كذب عليك. هذا يستتبع مقولةً شهيرة في عمق الفلسفتين المسيحية والمحمدية والديانات الأقدم التي تؤكد أن الجنة والنرا هما مساحةٌ أرضية نعيش عليها، وأن الدينَ معاملة، وأن مقولةَ إرساء الحق والخير، الباطل والشر، هي لاختبار النفس البشرية في دونِها الأرضيّ إلى سماها العلوي حتى بلوغها إلى الارتقاء الإنساني. إذًا، الموضوع متعلقٌ بفكرة الوعي والارتقاء للخلاص من الشوائب التي تعتري الأنفس.
ولكثرة الأسئلة التي يجب طرحُها دائمًا كي نحظى بأسلئة الوجود والمصير، تبلغُ المدرسة الداهشية مكانها المُتاح لتقولَ بجرأةٍ ما ليس يقوله الباطن في الأشياء.
"وهل سنلتقي بأحبائنا الأعزاء؟
أم تراني أهيمُ في متاهةٍ شوهاء؟
أسرارٌ مغلقة موصودةُ الأقفال
لن يستطيع حلَّها أحكَمُ الحكماء!"2
وهذه، دون شك، هي مساحةٌ رحبةٌ للاعتراف بقدرةِ الخالق في الخلق. وإذا كان
------------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "مفاتن الشعر المنثور" (دار النسر المحلق للطباقة والنشر، بيروت 1984)، ص244.
2 المصدر السابق، ص 246.
-----------------------------------------------------
الميتافيزيق – الغامض قد أحلناه إلى غموض الروح انسجامًا مع الآية القرآنية الكريمة:
(يسألونك عن الروح قُل الروح من أمرِ ربِّي، وما أوتيتُم من العلم إلاَّ قليلاً) (سورة الإسراء: 85)، فإنَّ تفسير الظاهر بعلميةٍ ومنطقٍ دعانا إليهما الدكتور داهش في "قصصه وأساطيره"، وأدبه، نثرًا وشعرًا، لاستجماع مكنونه الدافق وفكره الواسع، ورسم حقيقةِ المشهد من حيث هو إطارٌ وعلم. وما نظريَّةُ التقمُّص التي آمنَ بها والقصص التي أرادها بدءًا بقصَّة "الملك الكلب" إلى "جبار الثلوج المرعب"، 2 وصولاً إلى "عظُم ذنبه فقطع ذنبه"3 سوى الدليل الساطع على أن أجبه متحفٌ يليقُ به العالَم، ليطلع ويرى أهمية الوجود وعدالةَ الإله.
وقد يبدو واضحًا أن التقمُّص، كنظريةٍ، أثبته العلم بما لا يقبل الشكّ، وذلك عبر فكرة الاستنساخ (الصورة والأصل). وقد كتب الباحث البريطاني جون راي كتابه "التقمُّص في الشرق الأوسط"، وأشار فيه إلى اعتقاد الشرق والغرب بهذه المسألة التي تنطوي على أبعاد سرٍّ عميق من أسرار الوجود (الحياة والموت). ولم يزل الفلاسفة والعلماء يعتقدون أنَّ الفيزياء والميتافيزياء تؤكِّدان حضور الأبعاد المابعد الخمس في ترسيخ صورةِ تجزئة الروح إلى صُوَرٍ متعدِّدة تخدم أبعادَ الحركة في نورها وظلِّها.
--------------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج2 (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979)، ص 13.
2 المصدر السابق، ص 18.
3 المصدر السابق، ص 31.