أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الأديبة الفنانة ماري حداد

أديبة لبنانية باللغة الفرنسية، وفنانة عُرضت بعضُ لوحاتها في المتاحف الأوروبية. ترأست نقابة الفنانين في لبنان. كان لاعتناقها، عام 1942، هي وافراد أسرتها، العقيدة الداهشية ضجةٌ كبرى في المجتمع اللبناني. أصدرت باللغة الفرنسية كتاب "الساعات اللبنانية" Les Heures Libanaises، ونقلت إلى الفرنسية عدة مؤلفات للدكتور داهش، منها "مذكرات دينار" و"عشتروت وأدونيس" و"جحيم الذكريات". توفيت في مطلع العام 1973.

 

عرفناكَ وتبعناك(1)

عندما التقينا بك يومًا كانت الأرضُ مغمورة باللعنة والظُلمة، وكانت الحياةُ ليلاً حالكًا وأبديًا في اكفهرارِه ودجوجيته.

          نعم، تم لقاؤنا بك، وإذا بالشمس تطلعُ وتشرقُ وتسطع، وإذا بأنوارها البهية تتغلغلُ في أعمق أعماق أرواحنا فتضيءُ جنباتها العميقة، وتُنير حناياها السحيقة. ومنذ تلك اللحظة أصبحَ منزلك الصغير الوديع قِبلة أفكارنا، ومحجة أحلامنا، ومحط أمانينا. وحينذاك عجزت القوات الشريرة والعقبات المغرضة عن إبعادنا عن هذا المنزل الذي كانت تُحاولُ فصلنا عنه. ومنذُ تلك الساعة خلعنا عنَّا ماضينا الرثّ، مثلما تُخلعُ الثياب البالية، ولم نعدْ نرغبُ في أن نتعرف إلى ذلك الماضي التافه...
          فما هي، يا ليت شعري، أسبابُ هذا الانقلاب العجيب، وهذا التحوُّل الغريب، بينما كُنَّا لأيام خلتْ نعيشُ ونحيا كسائر الناس نتمنى ما هم يتمنون، ونطمحُ إلى ما هم إليه يطمحون من أمور دنيويةٍ حقيرة؟ ماذا قلت يا ترى؟ ... وماذا صنعتَ لتخلق فينا هذا الانقلاب الكليّ، فجعلتنا نتقلُبه وندينُ به وندافع عن ذّمارهِ حتى الموت؟

--------------------------------------------

1-    هذه المقالة كتبتها السيدة حداد بعد أن بلغها خبرُ مصرع الدكتور داهش في أذربيجان، وهي مقتبسة من كتاب "مراثي الأدباء والشعراء... بمؤسس العقيدة الداهشية" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979، ص 176 – 185.

--------------------------------------------

هذه الثورة الروحية لم تحصل فينا إلا لأنك رفعت عن أعيننا حجاب أسرار ما بعد الوجود، ورددت على مسامعنا آياتِ الإنجيل، وكنتَ أمامنا المثل الأعلى في تنفيذك تعاليم ذلك الكتاب السماوي.

                لقد كنت غريبًا عن كافة البشر: غريبًا بأفكارك وأهدافك، غريبًا بمراميك وطموحكَ النبيل، غريبًا بروحك العلويَّة التي لا صلة تصلها بهذه الأرض الفاسدة.

          كنت كأحد الآلهة وقد تاه عن عوالمِه السماوية السرمدية فهبط إلى هذا العالم الشقي الفاني.

          نعم. هذه هي الحقيقة! فلقد شاهدَ الكثيرون معجزاتك الخارقة، وسمع الكثيرون آياتك وتعاليمك السماوية، فثبت البعض، وتخلف البعض الآخر لكي لا يروا نور هدايتك، ذلك النور الذي فتح أمامهم سُبلاً جديدةً لحياةٍ جديدة... ولكنها صعبة المسلك.

          أمَّا نحنُ فقد فهمنا أنك أنتَ هو الحقُّ والطريق والحياة.

          لقد فهمنا أنك أنتَ (الكلمة) الأزلية المتجسدة.

          فأنت أنتَ هذه (الكلمة) وهي خاصتك، وكان علينا أن نرافقك إلى بلادٍ نائية، فنسير هناك على خطواتك النبيلة، ونعيش في ظلك السامي، منفذين تعاليمك، متمشين على وصاياك السماوية، فنحيا في تلك الأجواء الروحانية السامية العطرة، ونتنسَّم نسمات القمم المرتفعة التي لم يُدنِّسها مُدنس، ومن أراد أن يتبعك ويكون لك تلميذًا يلتحق بك ويربط حياته بحياتنا.

          ولكن الإرادة الإلهية شاءت لك غير ذلك، إذ كان مكتوبًا عليك أن تمر في بوثقة الحوادث الجسام وتشفى!...

          لم نستطع الصمت عمَّا شاهدنا، ولا السكوت عما سمعنا... بل اندفعنا نُبشر أبناء الأرض وندعوهم إليك ونسردُ عليهم آياتك ومعجزاتك. ولكن، واأسفاه... كانت نتيجة هذه الدعوة أن جلبنا عليك الاضطهاد... ذلك الاضطهاد البربريّ المجرم الأثيم...

          وعرفَ الكثيرون قوتك الروحية الخارقة لأنظمة الطبيعة وسُنن الكون، وسمعوا عنها الشيء الكثير، وشاهدوا من خوارقها الأمور المحيرة العجيبة، فكانت هناك آمالٌ في بعض مَن يتمنون الحصول على الثروات الطائلة، والأمجاد الباطلة، والنفوذ الزائف، إذ رغبوا في أن يستغلُّوا هذه القوة لمصلحتهم، فالتفُّوا حولك تحفزهم هذه الأطماع الخسيسة لنيل المغانم، وهُم يجهلونَ حقيقة نياتك الحسنة واتجاهاتك السامية.

          أما الذين يعيشون في مستنقعات الشرور والآثام، فإنك أرهبتهم وأرعبتهم، ولذلك راحوا ينهشونك بالذئاب المفترسة، وينفثون سمومهم كالأفاعي المرقطة، ولكن الأجيال والدهور والأمم والشعوب ستلعنهم مثلما هم سيلعنون أنفسهم أيضًا إلى أبعد الآجال.

          لبنان. لبنان!... لقد نبذتَ أفضل أبنائك واعتديتَ على مَن هو فخارُك بل عنوان عزتكَ وكبريائك.

          لقد نبذته يا لبنان بعد أن أشبعته مهانةً وعذابًا واضطهادًا، ولم تكتفِ بنفيه خارج حدودك فحسب، بل جردتَه من حقه في الحياة، حتى في أرضِ غربيةٍ عندما جردته من جنسيته اللبنانية دون عذرٍ ولا سبب.

          جردته من جنسيته ثم طرحته في أراضٍ غريبة... هناك، على الحدود التركية، حيث يكمنُ الحرسُ ببنادقهم ورصاصهم ليصوِّبوها على المشردين الذين لا جنسية لهم عندما يخترقون تلك الحدود المحرمة، وخصوصًا أن الأيام كانت أيام حربٍ ضروسٍ رهيبة، فيا للجريمة!

          أما أنت يا لبنان!... فعلامَ اهتمامك إذا انتحبت والدةٌ مسنةٌ وأعولت شقيقةٌ ملتاعةٌ، وبكى أصدقاءُ أوفياء!

علامَ اهتمامً الجلادين الخالية أفئدتُهم من الضمير، والخاوية من الوجدان! ولكنكم ستبكونه جميعكم، وستبكونه طوال الأجيال والدهور عندما تعرفون حقيقته، وتعلمون من اضطهدتم ومَن عذبتم.

          إننا بكيناك كثيرًا أيُّها المعلم العزيز المحبوب، ولكننا فرحنا كثيرًا عندما نجوتَ من الموت, وحفظتك العناية حيًّا، فآلينا على أنفسنا أن نناضل في سبيلك كي تعود أغلى وطنك في يوم قريبٍ معززًا مكرمًا رغمًا عن جميع حسادك اللؤماء...

          ولكن قوات الشر تضافرت علينا من كل جانب، وطال غيابك عنَّا، وإذا بنا نشعر بروعةٍ هائلةٍ، وفراغٍ جديدٍ في صفوفنا قصم ظهورنا قصمًا عندما رحلت (ماجدا) الحبيبة تاركةً إيانا في أتُون المعمعمة، وفي صميم نارها الجهنمية المندلعة بجبروت. ولم تكفِ هذه الضحية الطاهرة للجلاد العديم الشفقة... فبينما كانت قلوبنا تقطرُ دمًا عليها، وبينما عيوننا تنضح                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                    دموعها من مآقيها، إذا بكارثةٍ جديدة تحطُ علينا فتعصفُ بأحلامنا، وتقوِّض أمانينا، وتزيدُ آلامنا آلامًا وجروحنا جروحًا عندما بلغنا الخبرُ المرعب: خبرُ وفاتك ورحيلك...

بلغنا هذا الخبر الدامي ونحن سجناء الظلم وراء جدرانِ السجون، فأين الوحدة والانفراد لنطلقَ العنانَ للأحزان، والدموع والأشجان.

لقد رحلتَ، أيها المعلم الصالح، ونحنُ لا نزال في إبان المعمعة. إننا نبكيكَ بدموع قلوبنا، ونرثيك بآلام أرواحنا، ولكنَّ إيماننا لا ولن يتزعزع، مهما عصفت به الرياحُ الزعزع، فهو مبنيٌّ على عقيدةٍ ثابتةٍ بأنك وإن متَّ بالجسد فأنتَ حيٌّ إلى الأبد، حيٌّ بمبادئك الإصلاحية، حيٌّ بتعاليمك السماوية، حيٌّ بثورتك الفكرية ضدَّ القوانين الجائرة في هذه الهيئة الاجتماعية.

          هنيئًا لمَن عرفوك، وترسَّموا خطواتك النبيلة السديدة.

          هيئًا لمَن تبعوكح، وساروا في سُبلك الرشيدة.

          هنيئًا لنا لاختيارك إيَّانا... إذ بك شاهدنا شُعاعًا منبثقًا من سماء العزَّة الإلهية.

ففي العصر الذي فيه يبذل العلماء أقصى تفكيرهم وجهودهم لاختراق أسرار الكون، فيصلون بعد الكد والجد إلى معرفة بعض الاسباب والمسببات، والعلل والمعللات... نراك أنت قد جعلتنا نلمسُ بإصبعنا أسرارَ العالم اللامتناهي... وأثبتَّ لنا بصورةٍ أكيدةٍ لا تقبل الجدل العقيم حقيقةَ خُلود الروح، وأنَّ هنالك ثوابًا وعقابًا. لقد شرحتَ لنا أصلنا السامي، وكشفتَ عن أسرار الرجوع إلى الأرض... ذلك الرجوع أكَّد لنا عدلَ الله الكامل ورحمتَه الشاملة اللانهائية.

          فيكَ تقطنُ المعرفةُ التامة التي لم تتلقنها على مقاعد المدارس لأنَّك عشت طفلاً يتيمًا، ولم يقدِّر لك أن تمرَّ في المعاهد. وما هي العلوم البشرية بالنسبة للمعرفة الإلهية التي تتفجر ينابيعها النوارنيَّة من مَعينك الصافي؟

          لقد علمتنا التجرد عن المادة واحتقار العِجل الذهبي احتقارًا تامًا بينما هو معبود بني الإنسان، في كلِّ عصرٍ وزمان.

لقد غرستَ فينا الأزدراء ببهارج الدنيا الفانية، فما عادت الألقاب العالية والمناصب الرفيعة لتبهرنا. وما عادَ استعراض قوات الحكومات والأُمم ليرهبنا. كنا نتلفظ في الماضي مثل الكثيرين عن أباطيل هذه الترهات التي يستميتُ الناس في سبيل الوصول إليها، ولكنها كانت كلمات رياء إذ كنا نُبطن غير ما نُظهر. أما اليوم فقد أصبحنا ندينُ بما نقول، وكلامُنا هو الحقّ، وهو المبدأ الذي نسيرُ بموجبِه، والذي نرسمُه بخطواتِ حياتنا، لأنك علمتنا أن نبذَ! الكذب والرياء، فأصبحَ لسانُنا مرآةً لأنفسنا.

          أما الآن، وبعد هذا التطور الخلقي، ونحن ننظر إلى العالم، ماذا نرى؟

          نرى قادتَه وحكوماتهِ جميعها تتصنَّع، وبقناع الكذب والرياء تتقنع، فلا يمضي يوم إلا نسمعُ فيه الخطابات المعسولة، والعهود الكاذبة التي يقطعها رجال السياسة إلى سكان الأرض، أُولئك الرجالُ المُراؤون، المتلونون تلوُّن الحرباء بألف لونٍ ولون...

          أما نحنُ الداهشيين، فلم نعد لنتحمل هذه الأكاذيب، ولم نستطع إلا محاربتها ومُجابتهتها لأنك أذكيتَ في صدورنا شُعلة الحقيقة المقدسة، وأضرمتَ نيرانَ الحرب على قوات هذه الطُغم الظالمة المدجلة.

          فمن هو الداهشي يا تُرى؟

          ولِمَ ينفرد عن كافَّة الناس بعدم إذعانه لهذه القوات المدلهمة التي تنحني أمامها أكثرية الطبقات والجموع، بذلٍ وخنوع؟

          الداهشيُّ هو الرمز الحي للحقيقة والمعرفة والعدالة ومحاربة الرياء والجهنالة والضلالة.

          الداهشيُّ هو رمزُ الكفاح والنضال والحرب ضدَّ الظلم والطغيان، ضد الكذب والبُهتان، ضد الأنانية ومحبة الذات، ضد كل ما يدفع بالروح للانزلاق إلى دركات الحقارة والدناءة، وهو أيضًا رمز الانتصار الأخير، انتصار الروح المقدسة وقيمتها الأبدية على المادة الهدامة وقوتها الشريرة.

          فالداهشيُّ إذن هو المنفذ لهذه الآية الإنجيلية القاتلة:

          "جئتُ لألقي حربًا لا سلامًا." لأن لا سلام في الأرض إلا بعد سحقِ قوات الشرِّ ومحقها محقًا أبديًّا. فأنتَ هو أيُّها (الهادي العظيم!) أنت هو الذي شدَّدنا بالروح، وغرس في صدورنا هذا الطموح السامي، نحن الذين تبعناك، منذ عرفنان: وكنا لك تلامذةً أُمناء وأتباعًا أوفياء.

          العالمُ ينشد السلام، ولكن لا سلام له إلا بهدايتك الروحية ورسالتك الداهشية.

          فالسلام ثمرةُ العدل، والحقيقة، والمحبة العالمية.

والسلامُ ثمرة الجهاد الشخصي، وقهر الأنانية، وتغلب المرء على رغباته الدنيَّة، ليعود إلى نبالته الأصلية.

          ومَن يستطيع أن يغرسَ هذه الروح الحقة إلا أنت؟

          ولكن مَن يسمع هذه البُشرى ومَن يُصغي إليها، ويُقبل عليها؟

          سيقولُ لك العالمُ:

          "إنَّ تعاليمك قديمةٌ قِدم الدهور، فهل تكلمنا مثلما كلّم موسى شعبه في غابر العصور؟ وهل من المعقول أن تحدثنا في هذا العصر بلغة المعجزات وقد مضى عهدُها وانقضى؟"

          لا.لا... لم تعُد الأرض صالحة لسماع كلامك أيها المعلم الهادي! لأنها ضلت في كبريائها، ولم تعد لتشعر غلا بنشوة اختراعاتها التي أنجزتها، وبهل يقتل الأخ أخاه، ويمحق القريب قريبه... وعلى هذا نسيت أو تناست الحقيقة الوحيدةت الثابتة أبدًا وهي أننا سنموت جميعًا، وأن هناك العدل الإلهي الدائم البقاء، والذي سيجازي كل إنسانٍ حسب استحقاقه.

          نعم، لقد تناسى العالمُ هذه الحقيقة الواقعية وأخذ يتيهُ في حقارة رغباته التافهة. وهرعَ الجميعُ من أفرادٍ و جماعاتٍ لاقتناص المادة والأمجاد والنفوذ، فكانت النتيجة أن التهبت الشهوات، فطغت الحروب, وعمَّت أرجاء المعمور، وأصبحت الأمم والأفراد في نزاعٍ متواصل.

          وأصبح السَلمُ حُلمًا مستحيل التحقيق ما دامت الأحقاد تتأجج في الصدور، والأنانية والحسد يغلغلان في الأرواح.

          نعم، لم يعُد من سلام ما دام الظلمُ يخيمُ على ربوع هذا الكون، وما دام كلُّ شعبٍ يرقب جارَه ويكمن له حتى ينقض عليه، وما دام كل إنسانٍ لا يفكر ولا يسعى إلا للتعدي والطغيان، والاستئثار بأخيه الإنسان.

          نعم، لم يعُد من سلامٍ ما دام العالمُ بأسرهِ قد تحوَّل إلى مصنعٍ هائلٍ تجنَّدت فيه القوات والأفكار والإرادات للتنكيل والتدمير، والتخريب لا التعمير.

          لقد تعلمنا صلاة سامية لسيِّد المجد وفيها العبارة الآتية: "أعطنا خبزنا كفاف يومنا". أمَّا اليوم فقد أصبح هذا الخبز المبارك آخر ما يفكِّر فيه الإنسان... إذ لا تراهُ يزرع ويُعنى إلا بخبز الضغينة والظُلم بعد أن فقد القناعة، وتاهَ عن سُبل اللَّه، وتغلغل في مستنقعات رغباته الأشعبية، وهذا هو خبز (قايين)... خبز (الموت) اللعين... فَمَن يسمع إلى بشارتك؟ ومَن يُصغي منهم إلى دعوتك ورسالتك، وقد سحرتهم المادة المتوهجة وكبلتهم بأحابيلها؟

          أمَّا نحنُ اتبعناك، فإننا آلينا على أنفسنا أن ننفذ تعالميك السامية. وثِق بأننا سنحافظ على عهدِك الذي أصبح عنصرًا من عناصر أرواحنا. فقد اندمجَت أفكارُك ومراميك بأنفسنا، وسوف نزرعها في كل مكان بأقوالنا وأعمالنا واتجاهاتنا وجهادنا المتواصل حتى يصرع حقُّنا باطل الظلام فيرديهم ويردهم إلى مهاوي الظلام.

          في هذه الساعة الرهيبة التي بلغني فيها نبأ وفاتك، ورغم آلامي العميقة وأنا في سجن النساء، فإنني أتأكد باطمئنان أن في هذه اللحظة التي غادرتنا فيها، نراك أقرب إلينا من أي وقتٍ آخر.

          لا,لا... إنك لم تمت، إنك لم تمت، وسوف تجدد العالمَ بأسره. ستُجدده في أُسُسه وبُنيانه، ودعائمه وأركانه.

          إنني أعودُ بالذاكرةِ إلى تلك الأيام الهانئة عندما كنتَ منكبًّا على الكتابة وقلمك يخترقُ الصفحات كسهم من النار والنور بسرعة الفكر الخاطف، وكانت المؤلفات تتلو المؤلفات، وتتكدَّسُ أكداسًا، وهي تطرق جميع المواضيع وكافَّة العلوم.

          فشكرًا لك على هذا الميراث الأدبي الذي تركته للعالم، والذي سيصبح في يومٍ قريبٍ مصدرًا إلهيًا للمعرفة، وينبوعًا صافيًا للمحبة السامية.

          والآن أريد أن أبكي بكاءً أبديًّا على ما أصابك من آلامٍ وعذاب، وعلى جميع ما تحمَّلتُه من أشجانٍ ومصائب، وأحزانٍ ومصاعب.

          أيُّها (الرجُل المجهول) من كافَّة البَشر... أوَّاهِ! ماذا أتيتَ لتعملَ في هذه الأرض الجاحدة الناكرة للجميل؟

          إنَّنا لم نستحقَّك!

          ولكن كُن مباركًا لمجيئك إلينا. كُن مُباركًا لتجديدك لأرواحنا يا رسول السماء، ويا سفير عالم الطُهر والسموّ والنقاء.

          كانت المعجزات ترافق خطواتك. وكانت أكمام الأزهار تتفتَّق وتتفتَّح على طريقك. وكانت الطيور تشدو عند مرورك بقربها.

          وكان الذين قد أُعدوا من الله أن يعيشوا بقربك قد بُهروا بتألُّق مجدك وسطوع نورك.

          وكانت أجواق الملائكة غير المنظورة تحفُّ بك أينما سرتَ وكيفما توجهت.

أمَّا بلادُك، فقد عذبتك واضطهدتك ونفتك.

ولا شيء يستطيع أن يُعزِّي قلوبنا عما لحق بك من آلامٍ وأشجان. ولكنك كنت عالِمًا بها، متوقعًا إياها، فتقبلتها بصدرٍ رحبٍ، وكان دمُك الثمين ثمنًا لفدائنا.

          فكنُ مباركًا آلافًا وآلافًا من المرات على مجيئك إلى عالمنا السخيف، وهبوطك من جناك الخُلد، وقبولك الأقامة بين ظهرانينا تلك اللحظة الخاطفة التي سرعان ما ولَّى عهدها الجميل وانقضى، وكأنَّها البرق قد وَمضَ... ومضى!

                             بيروت، " سجن النساء، حزيران 1948

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.