الشيخ عبد الله العلايلي
علامة ولغويٌّ لبناني. كانت له آراءٌ جريئة في تطوير اللغة العربية، كما كانت له آراؤه الجريئة في شؤون اجتماعية وسياسية حتى لُب بـ"الشيخ الأحمر". من مؤلفاته "مقدمة لدرس لغة العرب" و"أيام الحسين" و"دستور العرب القوميط، و"المعجم" و"المرجع". وقد عرف الدكتور داهش بعيد إعلان عقيدته عام 1942، ووضع كتابصا مستقلاً نه بعنوان "كيف عرفتُ الدكتور داهش".
تأَوُّد وذكرى
أيْ أخي!...
من وراء هذا المنحنى الأرضيّ الذي تنتفخُ فيه الحمأة، ويستألهُ الطين، وتنتصبُ أشباحُ الوحول أربابًا بكبريائها وعتوِّها... أُناجيك!
أُناجيكَ لأني عرفتكَ، وقليلٌ هم الذين عرفوك.
أي أخي!...
عرفتك لأني رأيتكَ بغير منظارهم الذي عهدوا.
----------------------------------------------
1- هذه المرثية مقتبسة من كتاب "كيف عرفتُ الدكتور داهش" للشيخ عبدالله العلايلي (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979، ص 61)، كتبها بعد أن بلغه نبأُ مصرع الدكتور داهش في أذربيجان عام 1947. فقد نشرت بعضث الصحف اللبنانية في النصف الثاني من ذلك العام خبرًا مفادُه أن مؤسس الداهشية أُعدِم في أذربيجان بإيران لأنه لم يكن لديه أوراقٌ رسمية تُبتُ هويته، فظُنَّ أنه جاسوس، ولا سيما أن فتنةً داميةً كانت ناشبةً، عامذاك، هنالك. ونشرت الصحف مع الخبر صورتين فوتوغرافيتين للإعدام. أما حقيقةُ الأمر، فهي أن الدكتور داهش كان آنذاك في بيروت، وأن من أُعدِم هو إحدى شخصياته الروحية. ذلك أن لمؤسس الداهشية ستَّ شخصيات تنتمي إلى عوالمَ عُلوية، ويُسمَح لا، لاسباب روحية، بأن تتجسد على الأرض، فتتخذ شكله تمامًا، ويشاهدها كثيرون. وقد ألأقي القبضُ على إحداها، وأُعدِمنت في أذربيجان، فحسب أصدقاء الدكتور داهش وعارفوه أنه هو الذي مات، فانبروا لرثائه. وقد جُمِعت كلماتُهم في كتاب "مراثي الأدباء والشعراء والصحفيين... بمؤسس العقيدة الداهشية" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979).
------------------------------------------------------
وما كان لأبناء الطين أن يتحسسوا الحقيقة في أبناء اليقين... إلا تحسُّسًا أعمى يمشي على ضلال، وتشدُّه عصًا أنى سعى، أي تشدُّه جريمةٌ أنى انقلب.
فالتحسُّس الأعمى كتلةٌ من الظلمة.
فإذا ذهب يعتصر من ذاته، اعتصر ظلمةٌ أي ظلمًا واضطهادًا.
اعتصر سوادًا أي أحقادًا.
اعتصر أشباحًا مُرعبةً تتراءى، أي باطلاً يمرُّ به باطل...
أي أخي!
عرفتُ فيك ملامحَ إنسانٍ غريبٍز
عبر مُشيرًا ثم توارى سريعًا.
ولكنه ترك على دروب أبناء الطين آثار مسيرهِ، ليقوا يوم أن يستفيقوا:
- "من هنا مرَّ إنسان...".
ومن هو هذا الإنسان؟ هو داهش!
أي أخي!
في حكاية مأساتكَ حكاية مأساة الحرية في كل جيل...
فأنتَ وإن ظنُّوا أنهم هزموك... إنما واقع الحال يُنادي:
إ،ك أنت الذي هزمتهم بل هدمتهم بل هشمتهم...
لهذا قد انتصرت وما انكسرت.
فإنك جعلتَ نفسك... أو بالأحرى جعلوا منك بأيديهم... حلقة جديدة في سلسلة المناضلين الأحرار.
وهذا الأمر لا يستطيعهُ إلا كل ثائرٍ جبار...
ولم يعد بعيدًا أن تلتفَّ حلقاتُ هذه السلسلة الداهشية وتنعقد عليهم انعقادها على أعناقهم، وتُطبق فوق ساحتهم إطباقه الموت.
أي أخي!
في طبيعة أبناء الحرية طبيعة الأوقيانس الشاسع المسافات. وفي طبيعة أبناء القيود وعبيد الأغلال طبيعة التراب، طبيعة الجماد. وهذه حكايتهما، وبالأحرى حكاية معناك: بين الحق والباطل، وبين مستصرخٍ وناكِل... تراقص المحيطُ مضطربًا متنِّحًا كبحرٍ استقبل بين حناياهُ العاصفة فمادَ بها ومادتَ به زمنًا، وانطلقَ يقذفُ بالزبَد يعبِّرُ عن أنه حانق...
شعرَ البحرُ الثائرُ بأن الصخورَ الجامدة في أرجائهِ ليست من طبيعته... وهو إذا ترامَى مُنطرحًا تعبًا، تستقبله بقسوةتها، فتتكسر عندها أمواجه. فاستدار عليها يزمجرُ غاضبصا ثائرًا هادرًا... فقد أيقن أنها مكمنُ العاصفة، فهو ينوءُ باقتلاعها.
وحين طاوَلتهُ طمَى عليها محتقرصا إياها، مُزدريًا بها، متجاهلاً وجودها. وهو وإن لم يقتلعها، فقد ردها إلى حيث لا يكون لها حساب في كبرياء الوجود...
في طبيعة البحر رشاقة الحركة الرخية.
وفي طبيعة الجماد الجلموديّ سكونٌ بليدٌ متجهم...
وبينهما وقف (إنسانٌ) فيه وعيُ السكون وقصدُ الحركة...
يصل أسباب أحدهما بأسباب الآخر.
وكانت كبرياء (الجماد) عمياء... فلم تقنع بغير وجودها...
فانطلقت أعاصيرُ البحر تزأرُ في مثل زأراتِ الرآبلة...
ووقف هذا الإنسان عند الشاطئ ينظر متفجعًا...
فإذا الجمادث المخدوع ترقص فوقه موجةٌ ماركة...
في نغمةٍ تخبر أنه كان هنا شءٌ فيما زعموا...
مضى ذلك الإنسانُ وقد ابصرَ وسمعَ مُطرقًا، قائلاً:
- بهذا نطقَ الحقُّ في صدى الموج...
فتفتت الجمادُ وبددته الرياحُ إلى غير ما رضعة.
ولم يكن طويلاً حتى كان بنفسه رجفةُ رعاشاتٍ وخلجات
ورجعةُ أصداء الموج!...
وشرعَ الناس يروون من بعد أُمثولة هذا الإنسان!
أي أخي!
لستُ أبكيكَ
فأنت أعزُّ من البكاء.
وما كان لمثلك أن يُكفن بالدموع.
فالبكاءُ معنًى من انكسار الرغبة...
أما أنت – بمأساتك بل بثورتك التي أعلنتها – فقد سجلت انتصاراً،
وفجرت نورصا ونارًا،
وأطلقت في دنيا الظالمين إعصارًا،
تصرخُ به موجةُ الدهور في أُذن الأحرارِ أجيالاً وأعصارًأ!
بيروت، كانوا الأول (ديسمبر) 1947.