أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

ماري حداد

الأديبة والفنانة والبطلة الداهشية

                                                   بقلم نجوى سلام براكس

حياتُها قبل اعتناقها الداهشية

ولدت ماري حداد في 9 آذار (مارس) عام 1884. كان والدها، أنطون شيحا، من الأثرياء، فهو صاحب مصرف ( بنك)؛ وكان على المذهب السريانيّ، لكنه تحوَّل إلى المذهب الكاثوليكي اللاتيني بفعل علاقة أُسرته الوثيقة باليسوعيين. وقد رُزِقَ والداها ست بناتٍ (كانت ماري الرابعة بينهن) وصبيين، ميشال (صاحب جريدة له جور Le jour الصادرة بالفرنسية في بيروت، وزوج مرغريت فرعون، شقيقة هنري فرعون)، وجوزف؛ أما شقيقاتها فهنَّ: لور (زوجة الرئيس اللبناني الأسبق بشاره الخوري)، أليس (زوجة الماركيز دو فريج)، أديل (أم المليونير سامي شقير)، ماتيلدا (أم بيار حداد وجدة زوجة خليل الخوري).

توفي أنطون شيحا في سن الحادية والخمسين مُخلفًا عائلةً كبيرةً لكن ميسورة. وبما أن زوجته كانت مريضة، ومناخ بيروت الرطب لم يكن يلائمها، فقد اضطرت إلى الإقامة في الخارج، أكثر الأحيان. ولذا أدخلت ماري وأخواتها مدرسة سيدات الناصرة L’école des Dames de Nazareth حيثُ كنَّ تلميذات داخلياتٍ صيفًا وشتاءً. وبما أن المدرسة كانت فرنسية، فقد أتَّقنت ماري فيها اللغة الفرنسية، في حين أن العربية أهملتها، لأن البرامج المدرسية لم تكن حافلة بها. كان الطعام رديئًا في المدرسة المذكورة، وكثيراً ما كان ملوَّثًا؛ كما إنَّ وجبات الطعام كانت شحيحة إلى حد أن ماري كانت تشعر دائمًا بالجوع، من جراء رفضها إياه. وكانت مع سائر الطالبات يُرغمن على تناول اللحم المقدَّد الجاسي الذي كان يسبِّب لهن الأمراض غالبًا. ولذلك كان والدا ماري يُرسلان لها ولأخواتها الحلوى لتُتِمَّ ما ينقصهن من غذاء، غير أن الراهبات الصارمات كنَّ يستولين على الحلوى في أكثر الأحيان مُدَّعياتٍ أنها ستوزع على اليتيمات. ومع أن أهلها وجميع أهالي التلميذات في تلك المدرسة الكاثوليكية كانوا مُطَّلعين تمامًا على الحياة القاسية والشاقَّة التي تعانيها البناتُ في مرحلة طفولتهن، فإنهم كانوا يتغاضون عن المساوئ والمظالم من أجل ألا يغضبوا الراهبات الكاثوليكيات، وبالتالي الكنيسة الكاثوليكية! هكذا كن يربين: طاعةٌ عمياء للرؤساء، واستسلام من غير أيِّ استفسارٍ أو اعتراضٍ حتى لو كانت المسألة صحيَّة! وإلا فجهنم في انتظار من يشكو أو يتذمَّر!

والحياةُ المُرهقة التي عاشتها بين الراهبات أحدثت أثرًا بالغًا ظهر في كتابها الأول "الساعات اللبنانية" (Les heures Libanaises). ففي مقالة وصفيَّة بُنِيَت على توريَةٍ بارعة تحت عنوان "الراهبة"La mante religieuse". تعني بها "السُّرعوفة" وهي حشرة مفترسة معروفة – تقول: إنها لبهيَّة المنظر في ثوبها الصغير الأخضر، صورة الفضيلة والحشمة واللطافة. بذراعيها المنثنيين بلطفٍ تذكرك بصبيةٍ تنتظرُ خطيبَ أحلامها في القرن الوسطى. لكن لا ترفع عينيك عنها، بل راقِبْ رأسها الذي تحركهُ برياءٍ ومرونةٍ تامةٍ إلى جميع الجهات، ولن تجد راهباتُ الدير إطراء في هذه المقاربة(...)

إنها في جُمودها، وتيقظها، وتركيزها انتباهها على نفسها، تتهيأ للعمل، لكن ليس للتفاني في خدمةِ جيرانها، بل على العكس، لافتراسِ ضحاياها.

وبعد أن تصف انقضاض الراهبة – الحشرة على ذُبابة، تقول:

وها هي (أي الذبابة) في القبضة المُحكمة، قبضة قديستنا التي تجعلُ نفسها في وضع الصلاة والنشوة الروحية...

كانت والدةُ ماري تصطحب مناوبةً، كل سنة، اثنتين من بناتها لتُقيما معها خارج لبنان. وبعد أن أنهت ماري دروسها الثانوية، اصطحبتها والدتُها مع شقيقتها أولغا إلى سويسرا. وبعد عودة الفتاتين إلى لبنان، أصيبت ماري بمرض التيفوئيد هي وأكثر شقيقاتها، لكنهن شُفينَ منه إلا أولغا، إذ أودى المرضُ العصيّ بحياتها؛ فأقضت وفاتها مضجع ماري لأن أولغا كانت شقيقتها الأثيرة بسبب ميزاتها النفسية ولتقارب عمريهما.

تزوَّجت شقيقتها ماتيلدا بوديع حداد، فأعقب ذلك زواجُ ماري بشقيقهِ جورج حداد، التاجر المعروف، والقنصل الفخري لرومانيا بلبنان عهدئذٍ. وهكذا تزوجت أختان بأخوين. وقد اضطرَّت ماري، في أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى التعايش مع زوجها وأهله في منزلٍ واحد. رُزِقَت ماري ثلاث بنات، ماجدا البكر عام 1916، وآندره (زوجة جوزف حجار) عام 1919؛ أما زينا الابنةُ الصغرى المدللة فوُلِدَت عام 1922.

بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، اصطحب جورج زوجته ماري إلى نورمبرغ Nureumberg بألمانيا حيث أجريت لها عملية جراحية لعلةٍ في أنفها، بعد أن امتنع الأطباءً اللبنانيون عن إجرائها عهدئذٍ. وكانت قد اصطحبت زوجها في عددٍ من سفراته إلى بلدان أوروبية، منها رومانيا وفرنسا.

هكذا تنحدرُ ماري حداد من عائلةٍ أرستقراطية، فأنسباؤها من كبار وُجهاء لبنان، ومن النافذين فيه اجتماعيًا وماليًا وسياسيًا. ولذا فغيرُ عجيبٍ أن يتملَّقهم اليسوعيون والإكليروس الكاثوليكي في لبنان، وأن يحضنوا هم بدورهم اليسوعيين حتى يعقدوا في دارتهم الرحبة مؤتمر خريجيهم السنوي عام 1941. وفجأةً يحدثُ الزلزال.

 

إعتناقها العقيدة الداهشية

في 16 آب من عام 1942، بينما كانت ماري وأفرادُ أسرتها يحتفلون بعيد "السيدة" في بلدة "جورة الترمس" بمنطقة كسروان في جبل لبنان، تناهَت إلى مسامعهم قرقعةٌ دفعتهم، مع كثيرين من سكان القرية إلى الخروج إلى الشرفات لاستطلاع الأمر، فرأوا بالونًا دفاعيًا ضخمًا تابعًا للجيش البريطاني – وهو من تلك البالونات المستعملة في الحرب كمُضاد للطائرات – يحطّ قريبًا منهم. تقول ماري: "في تلك الأثناء كانت ابنتي آندره في مستشفى الدكتور رزق تضع ابنها البكر (إيليا). وفي الثامن من أيلول (سبتمر) من تلك السنة لدى مغادرة آندره المستشفى، قرعنا منزل الدكتور داهش الذي كان تجاه المستشفى، فاستقبلنا بحفاوةٍ بالغة(...) وفي خلال المقابلة طلب زوجي، إذا كان ممكنًا، أن يسمح له بجلسةٍ روحية يتحقَّق فيها شيءٌ من الأعاجيب التي أسمعنا الكثير عنها صديقنا حليم دموس. فسُمِح له بذلك. فطلب، إذ ذاك، زوجي أن يحصل فورًا على غرضٍ معيَّن موجود في بيتنا الكائن في الطرف الآخر من المدينة، وهو كناية عن قطعةٍ أثريةٍ من الخزف معلَّقةٍ بإحكام، في خزانة الاستقبال. وفي الحال ظهرت القطعة المطلوبة بين يديه، وذلك على مرأى أشخاص كثيرين. كان الحادث بالغ التأثير: شيءٌ ينتقل من بيتٍ إلى آخر بسرعة البرق! أخذتنا الدهشة وتملكنا الجمود، فقرَّرنا متابعة اختباراتنا مع الدكتور داهش... شرع الزائرون يتبادلون أطراف الحديث مع الرجل العجيب إلى أن تطرَّق الحديث إلى بلدة (جورة الترمس) التي كانت تصطاف فيها ماري وعائلتها. وتخبر ماري أنه ما إن ذكرت اسم البلدة حتى دُهش الحاضرون؛ وكان بينهم الدكتور جورج خبصا، نطاسي الأمراض الجلدية الشهير، والأديبُ المعروف يوسف الحاج (والد الدكتور كمال الحاج)، والشاعرُ الزحلي الطائرُ الصيت حليم دمُّوس. وإذا بحليم يُخبرُهم: "كنتُ سائرًا في المدينة برفقة الدكتور داهش، وعلى مقربةٍ من مركز البريد، خاطبني الدكتور (داهش)، قائلاً: "أنظر، هنالك في الفضاء، بالونات الدفاع الموقَّت؛ لقد شُدَّت إلى الأرض بحبالٍ فولاذية غليظة". أجبته:"نعم، إنها بالونات الدفاع الموقَّت، للجيش البريطاني. "ثم تابع: "أنظر هذا البالون"، وأشارَ بإصبعه إلى أحدها. في اللحظ نفسها، رأيتُ البالون المُشار إليه يطيعُه فيقطعُ حبلَه الفولاذي، ويطيرُ بعيدًا حتى يغربَ عن عينيّ. سألته مدهوشًا عن سبب الحادث فأجابني: دوِّن في مفكرتِك تاريخ هذا النهار، واعلم أن البالون سيُحلِّق إلى ما فوق قريةٍ لبنانيَّة حيثُ يهبط. سببُ ذلك أن في تلك القرية تنزلُ أسرةٌ ستؤمنُ بالرسالة الداهشية، وستقومُ فيها بدورٍ خطير، وقد تقدمت الحادثةُ لنبقى مُتذكرين اليوم الذي فيه ستدخلُ تلك الأسرة هيكل الرسالة الداهشية". وما إن تناهى الخبرُ إلى مسامع ماري وجورج حتى شُدِها عجبًا، إذ سقط البالون بتاريخ 16 آب في قرية (جورة الترمس) بجوار الفندق حيث كان جورج وماري يصطافان مع بناتهما. كانت هذه الخارقة وما تبعها من معجزاتٍ عاينتها ماري وأفراد أسرتها في زياراتٍ متكرِّرة لرجل الروح باعثًا على إيمانها بالداهشية هي وجميع أفراد أسرتها وعلى جهادهم في سبيلها جهادًا سجَّله التاريخُ بأحرفٍ مُضيئة.

جهادها الداهشيّ

كان لإيمان ماري حداد بالداهشية مع أفراد أسرتها ضجة كبرى في جميع الأوساط. فشقيقها ميشال شيحا غاظة أن تعتنق أخته الداهشية، فتكسِر، هكذا، من عنجهية اليسوعيين ومن نفوذهم. فتآمر معهم على مهاجمة الدكتور داهش وتشويه سمعته في جريدتهم "البشير"؛ فراحت الصحيفة الكاثوليكية تنشر الأخبار الملفَّقة ضد مؤسس الداهشية – الذي كانت مُعجزاته تتردَّد أصداؤها في جميع الأوساط اللبنانية وكثير من الأوساط العربية – من أجل إبعاد ماري حداد وأسرتها عنه.

ولما أسقط في يد ميشال، استعان بهنري فرعون، شقيق زوجته، لتنفيذ المؤامرة، ثم راح يحرِّض بشاره الخوري على ذلك. وإذا رأت ماري شقيقها مصمِّمًا على تنفيذ خطته السوداء، أرسلت إليه كتابًا بتاريخ 16/2/1943 تنذره فيه بأن أيام محاكم التفتيش قد ولَّت، وبأن ويلاتٍ رهيبة سيجلبونها على أنفسهم إذا استمروا في مؤامرتهم ضد الدكتور داهش. وشاءت الأقدار أن يتولّى بشاره الخوري رئاسة الجمهورية اللبنانية في 21/9/1943، فخلت الساحةُ له لتنفيذ مؤامرته. ونزولاً عند رغبته، راحت الصحف في لبنان تنشر الأخبار الملفَّقة لتسويد صحيفة الدكتور داهش، وترفضُ، في الآن نفسه، نشرَ ردود الداهشيين على أكاذيبها؛ بل إن بشاره الخوري استأجر أقلام أربعة من الكويتبين، فأصدروا أربعة كتبٍ ملأى بالأكاذيب والافتراءات ضد رجل الروح البريء النقيّ. لكن ماري تشبَّثت بعيقدتها وازداد إيمانها اضطرامًا.

وبعد أن فشل بشاره الخوري وأعوانه في إلصاق أيةِ تُهمةٍ بمؤسس الداهشية، لجأوا إلى محاول اغتياله في 21/8/1944، لكنهم فشلوا. وفي 28/8/1944، دبروا مؤامرة اعتقل الدكتور داهش على أثرها، وأوقف في "سجن الرمل" خمسة عشر يومًا، أعقبها الرئيسُ الظالم بمرسوم تجريد رجُل الروح من جنسيته اللبنانية وإبعاده عن وطنه في 9/9/1944. كل ذلك بخرقٍ للدستور وبدون أيَّة محاكمة.

وتتابعت سلسلة الأحداث المُرعبة... وكان نتيجتها أن ماجدا، ابنة ماري البكر، هالها مصيرُ هاديها، فصمَّمت على قتل بشاره الخوري. وكان ذلك سهلاً عليها، لأنه زوجُ خالتها؛ فاحتازَت مسدسًا من أجل تنفيذ غايتها. تقولُ ماري في رسالةٍ لها إلى رئيس لبنان الجديد كميل شمعون ضد سلفِه الشيخ بشاره الخوري عن تصميم ابنتها على الانتحار: "وعندما علِمَ داهش بأمرها أرسل إليها تحريرًا يمنعها فيه من اغتياله. فما كان منها إلا أن انتحرت كاحتجاجٍ، لكي تُبلغ نبأ هذه الجريمة إلى الرأي العام. وهكذا ذهبت ابنتي شهيدة على مذبح الجريمة التي ارتكبها بشاره الخوري، ودمُها المسفوحُ لا يزالُ يصرخُ أمام عرش الديَّان طالبًا الاقتصاص العادل منه... وكان استشهادها في 27 كانون الثاني (يناير) 1945، على أثر أزمةٍ نفسيةٍ حادَّة اعترتها. و"مذكرات ماجدا" التي ترجمها الأديب اللبناني كرم ملحم كرم إلى العربية تشرحُ ذلك.

كما أدى الاضطهاد إلى انفصال ماري حداد وأفراد أسرتها عن الكنيسة الكاثوليكية. تقول ماري: "...أما انفصالنا عن (كنيسة روما) فقد أعلنَّاهُ، وأشهرناه، وأذعناه، لأننا ما عُدنا لنؤمن بقدسية هذه المؤسسة بعد أن شاهدنا أحبارها يدسون ضد الدكتور داهش، ويحرِّضون على قتله تحريضًا متواصلاً دون مُبالاةٍ بتعاليم السيد المسيح...

عاد الدكتور داهش إلى لبنان سرًا بعد شهر واحد من إقصائه التعسّفي عنه. ومن عرينه السريّ الذي لم يكن يبعد عن القصر الجمهوري أكثر من بضع عشراتٍ من الأمتار شنَّ على بشاره الخوري وأعوانه وزبانيته أرهب حملةٍ إعلامية عرفها التاريخ، إذ انطوت على 66 "كتابًا أسود" و165 منشورًا، فضح فيها مؤامراتهم على الشعب، ومظالمهم ومخازيهم الشخصية. والمهم هنا أن جميع تلك الكتب والمناشير صدرت باسم ماري حداد. وقد تبنَّتها ماري شخصيًا، وأرادت أن تصدر باسمها إمعانًا في إحراج الشيخ بشاره الخوري الذي كان متزوجًا شقيقتها لور شيحا، وإبعادًا للشكّ في وجود الدكتور داهش في بيروت.

لما أسقطَ في يدِ السلطة الحاكمة، فكّرت لور (زوجة الرئيس) بأن تتهم شقيقتها ماري بالجنون، علَّ هذا الاتهام يضعف تأثير "الكتب السوداء" في الرأي العام. فكان أن أمر الرئيس، بإيعاز من زوجته لور، بوضعها في مصحِّ الأمراض العقلية، ولكنهما اضطرا إلى إطلاق سراحها مُكرهين، بعد الحجر عليها عدة أشهر. وقد استغلَّت ماري وجودها هناك، فألفت كتابًا يفضحُ مخازي المسؤولين الذين كانوا يشتركون مع أزلامهم ليستولوا على ثروات أقربائهم، بعد اتهامهم بالجنون والحجر عليهم.

بعد إطلاق سراح ماري، عادت إلى كفاحها بضراوةٍ أشدّ من المرة الأولى، فقبضَ عليها وسُجنت بدون محاكمة. تقول ماري حداد في الشكوى التي أرسلتها إلى الرئيس كميل شمعون في 18 أيلول 1952 بعد سقوط بشاره الخوري: "وسوف تدهش فخامتكم إذا أعلمتكم بأن (بشاره) المذكور أمر فأوقفت في النظارة شهرًا كاملاً كنتُ أنامُ في خلاله على طاولة خشبيةٍ، وبرفقتي عشرات من الحراس والموظفين، فضلا؟ً عن الرجال الموقفين وذلك تشفيًا وانتقامًا منّي لأنني فضحتُ "بكتبي السوداء" جريمتهم النكراء ضد الدكتور داهش البريء...".

ثم يقبضُ عليها ثانية فتسجن وتُسام العذاب. تقول في إحدى رسائلها لجبران مسوح، صاحب جريدة "المختصر" الصادرة في بونس إيرس بالأرجنتين: "إنني أستصرخُ ضمير العالم المُتمدِّن على الجريمة المُرعبةالتي إرتكبها الأنذال ضد امرأةٍ عزلاء بريئة... لقد جلدوني بضعة أيام باستمرار حتى تمزَّق لحمي وتدفَّق دمي، وأصبحت أقربَ إلى الموت منّي إلى الحياة... وقد جلدوا قريني جورج حداد وصهري جوزيف حجّار... كما إنهم جلدوا الشاعر حليم دموس...".

وقد ورد في جريدة "الحياة" البيروتية بتاريخ 12 حزيران 1947 في صدد صدور الحكم على الداهشيين: "وأصدرت (المحكمة) عليهم الأحكامَ التالية:

ماري حداد ستة أشهر؛ وجورج حداد أربعة أشهر؛ جوزيف حجّار ثلاثة أشهر؛ حليم دموس أربعة أشهر...

وأختم كلامي على حياة ماري حداد بكلمة جبران مسوح الخالدة التي ضمَّنها رسالةً (ما تزال مخطوطة) إلى ماري بتاريخ 27 آب 1946: "هذا الحادث هو أعظم حادثة جرت في الشرق في هذا الجيل. وإني كلما قرأت تفاصيلها أرى ماري حداد فوق الجميع، فوق بشاره الخوري وفوق وزارته وحكومته. بل أنتِ فوق لبنان – كل لبنان لأنك تدافعين عن مبدأ وعقيدةٍ دفاعًا قصر عنه جميع الرجال".

توفيت ماري حداد في مطلع عام 1973. وأذكر أني عندما قمتُ بزيارةِ منزلها في ذلك الوقت، بادرتني كريمتها زينا بالقول: "ألا ترغبين في توديع والدتي؟" دخلتُ غرفتها فرأيتُ باقةً من الزنابق الناصعة البياض موضوعة في وسطِ سريرها النحاسي. فعدتُ إلى زينا وسألتها: "أين جثة ماري؟ لم أرها!" فقادتني ثانيةً إلى غرفتها، وأشارت إلى زجاجةٍ وُضِعَ في داخلها رمادُ الجثَّة وقد استقرَّت فوق باقة الزهور. قالت : "لقد أوصت بحرق جثمانها". فكان تأثّري عظيمًا لذاكَ المنظر الوداعي.

 

آثارُها الأدبية:

ليست الغايةُ هنا دراسة آثار ماري حداد الأدبية، إنما التعريف بها لأن دراستها تقتضي تأليف كتابٍ ضخمٍ يوفيها حقَّها. وسأعرضُ، أولاً، آثارها الموضوعة ثم الكتب التي ترجمتها.

الآثار الموضوعة

1 – "الساعات اللبنانية"

أحدثَ كتابُ "الساعات اللبنانية" Les heures Libanaises، عند صدوره، ضجّة كبيرةً في أكثر المحافل الأدبيَّة. وقد نُشِرَ في بيروت، عام 1937 تُزينه ثماني لوحات بريشتها المُبدعة. والكتاب عبارةٌ عن مجموعةٍ من المقالات الوجدانية المشبَّعة بصور الطفولة والطبيعة الجبلية والحياة القروية أو البدوية كما بأوصافٍ دقيقةٍ للفراش ولبعض الحيوانات الداجنة كالدجاج والحمار. كذلك وضعت بعض المقالات الوصفية في أشخاصٍ معنيين وعنونتها بأسمائهم، وقرنتها برسومٍ أبدعتها لهم، على الطريقة الجبرانية؛ منها "جرْوه"، و"سعدى"، "وعلي الصغير"، و"حمدَه" و"تلْجَه".

يقول لويس فوسيل (Louis Vaixoelles) في توطئة للكتاب:

هذه الانطباعات عن الطبيعة؛ هذه الذكرياتُ عن طفولةٍ يتناولها الحزن والفرح، وترتاح إلى الوحدة الحالمة، وعن مراهقة استشفّت المظالم والآلام الإنسانيَّة، وبعثتها بعباراتٍ غشتها بالحذر والضبابية؛ هذه المشاهد التي تنقل الحياة والبيئة بجو وتعبير لا أدقَّ ولا أقدر – كلها لوحاتٌ رسمتها فنانةٌ ذات موهبةٍ رهيفة تجيد استعمال القلم أجادتها لاستعمال الريشة.

رهافة في الحسِّ العميق، فلسفة بلا كآبة، موهبة للصور البكر، بساطة، نضارة في الإلهام، عفوية دافقة – لكن تلك المزايا هي أيضًا المزايا التي أكبرها في رسم ماري حداد.

ويختم فوسيل توطئته بقوله:

سواءٌ استخدمت القلم أو الريشة لوصف المشاهد أو الأشخاص، تبقى ماري حداد شاعرة.

2 – "مُعجزات الدكتور داهش وظاهراته الروحيَّة"

ينطوي الكتاب على منتخباتٍ من الظاهرات الروحية التي حدثت بين كانون الثاني (يناير) وتموز (يوليو) 1944.

من ميزاته أنه يشتمل على مقدمةٍ تروي فيها ماري حداد قصة تعرفها إلى الدكتور داهش وإيمانها بعقيدته الروحية؛ كما بتدوين الوقائع التي تسرد بدايات الاضطهاد ضد مؤسس الداهشية، منذ محاولة شقيقها، ميشال شيحا، إستدراج الرئيس ألفرد نقاش عام 1942 إلى إخراج الدكتور داهش من لبنان، إلى إرسال بشاره الخوري رئيس البوليس العدلي، إدوار أبي جوده، في 28/1/1944، إلى منزل آل حداد مزودًا بتعليماتٍ سريةٍّ سرعان ما كشفها الدكتور داهش بطريقةٍ روحية، إلى الإفادات الثلاث التي أدلى بها إلى رئاسة البوليس العدلي كل من الشاعر حليم دموس، والدكتور فريد أبو سليمان، والأديب يوسف الحاج، والسيدة ماري حداد عما يعرفونه عن الدكتور داهش، فإلى محاولة بشاره الخوري الفاشلة لاستمالة المجلس النيابي لسنّ قانون يؤدي إلى منع الدكتور داهش من عقد جلساته الروحية. وتنهي ماري حداد كتابها بخاتمة ورد في نهايتها:

إنه (الدكتور داهش) نور من يشاء أن يستنير! إنه يُكرِّسُ حياته ومواهبه الإلهية لخدمة بشريَّة لم تُحقِّق. في الواقع، عظمة الإنسان وأصل رسالته الإلهية.

منذ أعوام عديدة وأنا أعرفُ الدكتور داهش ثابتًا في قوَّته غير المحدودة، دائم العظمة في أعماله، دائم العزم في تعاليمه! إنه الصخرة التي تسطو على الزمن والأحداث، وسلطته ما فتئت في اتساع.

 

3– مذكرات ماري حداد وتأملاتها في أثناء وجوجها القَسريّ في مصحِّ (العصفورية)

إن إدخال ماري حداد قسرًا إلى "العصفورية" عام 1945، كانت نتيجته وبالا على بشاره الخوري وزبانيته ممَّن كانوا يلجأون إلى اتِّهام أقربائهم اتهامًا كاذبًا بالجنون، ليحجروا عليهم قانونيًا، ويستولوا على ثرواتهم. وقد سمت ماري حداد الأشخاص الضحايا بأسمائهم، وشهَّرت بالجناة من أقربائهم في "منشور أسود" بني على ما كتبته، وصدر، عام 1946، تحت عنوان "كشفُ الستار وفضح اسرار العصفورية وما يرتكب فيها من جرائم رهيبة باسم العطف على البؤساء والمنكوبين"، الأمر الذي أحدث ضجة كبيرةً، عهدئذٍ، وكشف الستار عن فضائح لم يكن اللبنانيون يسمعون بها. وما سبق إصدار "المنشور الأسود" من إنذارات كان كافيًا لإحراج السلطة اللبنانية واستدراجها لإصدار أمرٍ بالإفراج عن الأديبة الحكيمة.

4 – مذكرات ماري حداد في السجن(1947)

دوَّنتها في أثناء سجنها ستة أشهر، لأنها صدعت بإيمانها بوحدة الأديان الجوهرية وبنبوَّة الرسول العربي، ولشجاعتها في تبنِّي "الكتب السوداء". وفاضت فيها بوصف آلامها وغضبها وسَبرِ أغوار النفس البشرية.

5 – مجموعة قطع وجدانية لمطلع  حزيران"

دأبت ماري حداد، مُذ تعرَّفت إلى مؤسس الداهشية، على كتابة قطعة وجدانية في أول حزيران (يونيو) من كل عام. لكنها ما تزالُ مخطوطة. بيد أني، من استماعي إلى كلماتها في احتفالات مطلع حزيران– التي كانت تقام في منزلها الذي أصبح مقرًا للرسالة الداهشية- استطعت أن استنتج الخصائص التالية: ينبوعٌ من العواطف الصادق يفيضُ من أعماقِ نفسٍ نقيةٍ مُحبَّةٍ مُؤمنة، وشلالٌ من الأفكار السامية التي تجذب المُستمع المُثقَّف إلى فوق، حيث الأرواح القدسية في عالمها الأزليّ؛ إلى كل ذلك مغزى عميق واسلوبٌ بليغ يخرجُ بهما المستمع من كل قطعةٍ كتبتها.

6 – الرسائل المتبادلة بين لور قرينة بشاره الخوري وشقيقتها ماري حداد الداهشية"

هذا الكتاب الذي ما يزالُ مخطوطًا ينطوي على مجموعةٍ من الرسائل الخطيرة بين الشقيقتين، مكتوبةٍ بالفرنسية، وفيها يتَّضح ما كان يجري وراء كواليس تلك المأساة الرهيبة التي حاولت فيها ماري حداد إدخال النور إلى بصيرة أختها المتواطئة مع شقيقها ميشال وزوجها الرئيس على اضطهاد مؤسس الداهشية. كما يُبرزُ إيمان ماري الراسخ، ومُرونتها، وذكاءَها في مخاطبة شقيقتها، وإنذارها لها بأن عهد الباطل سينطوي، وعهد الحقّ سيبزغُ عاجلاً أم آجلاً.

7 – "صواعقُ داهشية"

إنهُ الجزءُ الأخيرُ من سلسلة "وثائق تتكلم" التي تشرحُ قضية الاضطهاد ومُلابساته في جميع مراحلها. و"صواعقُ داهشية" ينطوي على جميع الرسائل والعرائض والبيانات التي كتبتها ماري حداد بالفرنسية أصلاً، وقدَّمتها إلى المسؤولين الرسميين في بيروت كما إلى الدبلوماسيين الأجانب والأمم المتحدة. وتبدو ماري حداد في مُعظم ما كتبتهُ صارمةَ المنطق، قويةَ الحجَّة، مُشرقة البيان حتى ليُمكنُ القول إنَّ هذا الكتاب من أجلِّ الوثائق التاريخية الأدبية لقضية الداهشية في عهد الطاغية الراحل بشاره الخوري.

 

 

في الترجمة

      نقلت ماري حداد إلى الفرنسية عدَّة مؤلفات للدكتور داهش. طبع منها: "نشيد الأنشاد"، "عشتروت وأدونيس" مذكرات دينار"، و"مذكرات يسوع الناصري"، الجزء الأول. كذلك نقلت إلى الفرنسية "معجزات الدكتور داهش ووحدة الأديان" للدكتور غازي براكس(محاضرة ألقاها في الجامعة الأمريكية ببيروت، عام 1970). وعلى امتياز ترجمتها بالدقَّة والأمانة، فقد اتَّسمت بطابعِ الإبداع الشخصيّ.

 

أسلوبها

كتبت ماري حداد كل آثارها بالفرنسية. وقارئ أدبها سرعان ما يأسره أسلوبها الأنيق البليغ الفريد الذي يحدث في النفس تأثيرًا باقيًا، لأنه أسلوب الصدق النابع من المُعاناة النفسية، وأسلوبُ البساطة التي تُلبسُ أعمق الأفكار وأسماها ثوبًا جميلاً.

وأسلوبُها في ترجمتها، كأسلوبها في كتابتها الإبداعية، يمتازُ بالبلاغة والوضوح والسلاسة. ومن خلال قراءة المقدّمات النفيسة التي وضعتها للكتب التي ترجمتها والمقارنة بين أسلوبها الإبداعي وأسلوبها في ما نقلته تتَّضح البراعةُ الأدبية التي خوَّلتها أن تجعل المنقول بمستوى الأصيل.

وهي في كثير من قطعها الوجدانية التي يضمّها كتاب "الساعات اللبنانية" تضمن كتابتها توريات ومغازي إنسانية وعبرًا. وإنك لتشعر بروحها تهبّ من كلماتها كما النسيم على الوجه في ليلةٍ قمراء، وإن وصفت فبدقةٍ عجيبة تدعك ترى بعين خيالك ما ترسمه بالكلمات.

مما تقول، مثلاً، في قطعة "عيوننا" (Nos yeux) : نرى عيونًا إنسانية عميقة، ملأى بالأفكار؛ وعيونًا أخرى فارغة. ثمة عيون مضاءةٌ بنور ذاتها حتى لتقول إنها مشاعلُ روحية. وثمة عيونٌ باردة، لا مبالية؛ وأخرى مُفعمةٌ بالسلام والعذوبة؛ وهناك العيون الطفولية، والساذجة، والطيبة، والجذَّابة. وهناك العيون التي تبُثُ فيكَ القُشعريرة وتُبعدكَ عنها.

حقًا! إن عالمنا لعظيم، لكن رؤيتنا ضعيفة، وعيوننا لا ترى شيئًا يفسّر أسباب الأشياء.نتجادل لنفهم، ولا شيء يتَّضح. فلننتظر الموت، فهو يحلّ معضلات كثيرة.

أما في رسائلها وعرائضها الداهشية، فهي تارةٌ تهدرُ كنهر جارف، وطورًا تجري بتؤدة ومهابة كما النيل. وقد أثّر أسلوبها البليغُ هذا في نفس الصحافي المهجري، جبران مسّوح، صاحب مجلة "المختصر"، فأرسل إلى الشاعر الداهشيّ حليم دمّوس يقول:

اجعل ماري أن تكتبَ إليَّ عن كل ذلك ليحيط علمي بكل أطراف الموضوع. إن ماري تستطعُ ذلك. لأنها الصوتُ الأقوى فيكم، وبيانها غير بيانكم، وفنُّها غير فنَّكم. ورسائلها، مع أنها بالفرنسية، فهمت منها ما أريد أن أفهمه، لأنها قلبُ القضية النابض ودماغُها المُفكِّر...".

 

ماري الفنانة

قرَّرت ماري بعد أن كبرت بناتها أن تمارس فنّ الرسم الذي كانت تميل إليه مُذ كانت في الثالثة من عمرها. وقد اتَّفق قدوم الفنان البولوني ج. كوبيرت (J.Kobert) إلى لبنان ليستقر فيه، فانتهزت تلك الفرصة وتلقَّت عدّة دروس في الرسم على يديه (حوالى عشرين)، وسرعان ما برزت موهبتها وتخصَّصت في فنِّ وصف الأشخاص. وكانت ترافقها إلى محترف الفنان والدتها وبضعُ صديقات، منهن غلاديس شقير، والسيدة عمون، والسيدة بارت Bart،

      وكان جورج حداد يقدر مواهب زوجته، ويشجعها على ممارستها. ولإفساح الوقت لها أحضر لها الخدام لمساعدتها في الأعمال المنزلية، ليتسنَّى لها الوقت الكافي لإشباع مواهبها.

وأول ما اشتهرت ماري حداد كفنانة يوم أقيم للوحاتها معرض في غاليري جورج برنهايم Georges Bernheim بباريس في تشرين الأول (أوكتوبر) عام 1933. وقد ابتاعت الحكومةُ الفرنسية إحدى لوحاتها، وهي ما تزالُ معروضةً في متحف اللكسمبورغ بباريس. وكان هذا نجاحًا وتشجيعًا لفنِّها.

      يُشيرُ لويس فوسيل Louis Vauxcelles         في مقدمته لمجموعة اللوحات (38 لوحة) التي عرضتها في غاليري برنهايم إلى أن الباريسيين كانوا ينجذبون إلى موضوعاتٍ ماري حداد الغريبة عنهم المُستلهمة من طبيعة لبنان وأضوائه وأنواع زهوره وأشجاره، تلك الطبيعة التي تذكّر بالفردوس الأرضيّ المفقود والتي غنَّاها لأمرتين، ثم تلك الوجوه العصبيّة أو المميَّزة ذات العيون السوداء النجلاء والتي تمثّل، في الأكثر، البدويَّات والقرويَّات بصرامةِ طباعهنَّ وعنادهنَّ كما القرويين اللبنانيين والفلاحين السوريين في أزيائهم الريفية وطرابيشهم وعمائمهم... وفي رسومها تلك نفذتْ بقوةٍ وفرادة إلى سيكولوجية الأشخاص الذين رسمتهم وإلى روح لبنان. ويلاحظ المشاهد ذو الخبرة أنها لم تنتم إلى أية مدرسةٍ معروفةٍ انتماءً التزاميًا ولا إلى أي أسلوبٍ فنّي سابق – إنها نسيجُ وحدها. ولا نجدُ أي تأثير قويّ لما نراهُ من معروضاتٍ في متاحف أوروبا لرسمها. فإنها كانت تستسلِم إلى إلهامها الخاص؛ وهذا ما ميَّز أسلوبها عن أساليب غيرها. وإنَّ قوة أسلوبها تنمّ أكثر عن طبع رجلٍ قويّ الشكيمة مما عن طبع أنثوي. وباختصار إن فنَّ ماري حداد يشهد لها بالعصامية والصدق والحس الرهيف بالطبيعة كما بنفسيات الأشخاص المرسومين. وقد أجمعت الصحافة الفرنسية والأجنبية على الإشادة بقوّة فنِّها وفذوذيته.

 كتبت عنها جريدة "الدايلي ميل" Daily Mail     اللندنية بتاريخ 14/10/1933: "كانت لوحاتُ هذه الفنانة خميلةً تكادُ تنطق لو أعطيت قدرةً النطق، أو انعكاساتِ ضوء، أو نماذج حية لبشر، وهي نماذجُ حاولُ فنانونا دراستها طويلاً. إن اللوحات تعكسُ سوريا بسمائها الغارقة في لون الشفق، وجبالها، وغابات صنوبرها العملاقة، وأشجار برتقالها، وغاباتِ أرزها المترامية الأطراف التي غنَّاها "لامرتين". وقد نقلت مدام حداد كل ذلك بأمانة. إنَّ فنَّ مدام حداد فنٌّ قوي متمكّن من نفسه.

وقال جان فرانJean Ferran في تقديمه لمجموعة لوحاتها (68 لوحة) التي عرضت في فندق سان جورج ببيروت بين 16 و 26 كانون الأول (ديسمبر)، 1933، تحت رعاية سفير فرنسا، المفوّض الساميّLe Comte de Martel: "وبعد إلحاح كثيرين من وجهاء بيروت ومفكِّريها قبلت ]68 لوحة[ أن تعرض في فندق سان جورج عددًا من لوحاتها ]68 لوحة[. يظهر الأشخاص في رسومها قريبين من الفطرة والبداءة لم تؤثر فيهم بعد أساليبُ الحضارة الحديثة، فكأنما ألوفُ السنين الآسيوية ما زالت تطلّ من لمحاتِ وجوههم. كما اعتنت بتصوير الطبيعة الحيَّة والجامدة".

      وفي الكراس نفسه الصادر بمناسبة معرضها ببيروت نُشِرَت مقتطفات من 13 صحيفة فرنسية وألمانية وإيطالية تحدثت عن فنِّها وأشادت به بمناسبة معرضها بباريس. من آراء الصحافة أن لوحاتها تكشفُ عن "هذا العالم المُكتنف بالأسرار، مهد أعرَق الحضارات، هذا الشرق الذي يتفكَّك على مهلٍ تحت ضغط الحداثة".

وقالت صحيفة ألمانية عن أعمالها الفنية: "إنها تسبر شخصية بلادها وشعبها بأشكال فنيَّة شخصية تمامًا وألوان قوية... إن رسومَ الأطفال الذين ينظرون نظرةً شرسة كأنهم ضوارٍ صغيرة أو الرسومُ الأقوى التي تظهر فيها وجوه نساء البلد تحت النقاب القاتم المتثني وهنَّ ينظرن إليك بعيونٍ حزينة ووقحة تحت جبهاتٍ كامدةٍ وموشومة – هي استشعار لعالمٍ شرقيّ تكتنفه الأسرار...".

هذا وقد انتخبت ماري حداد رئيسة لنقابة الفنانين اللبنانيين في الثلاثينيات، قبل أن يتقلّد رئاسة النقابة قيصر الجميل.

أما اليوم فلوحاتٌ كثيرةٌ لماري حداد باتت تعرض في "المتحف الداهشي The Dahesh Museum القائم في مدينة نيويورك؛ وهي تجدُ استحسانًا كبيرًا من الزائرين ومتذوقي الفنون.

 

شخصيّتها:

      إمتازت شخصية ماري حداد بسمات نفسية ثابتة اخترقت حياتها بمرحلتيها. من هذه السمات الاستعداد الفنّي والاستعدادُ الأدبيّ، وبكلمةٍ داهشية سيَّال الفن وسيال الأدب اللذان رافقها في مرحلتي حياتها.

      كانت ماري تحب من الفنون الرسم والموسيقى وتمارسهما، وهذا جعلها تهوى مخالطة الأدباء والفنانين، ففتحت أبواب منزلها الرحب لهم. وقد برعت أيضًا بفنِّ الخياطة التطريز والتخريم، لكنها لم تتميَّز بها. وجلّ ما ظهر اهتمامها هذا في عنايتها بموائدها، إذْ  كانت تزيّنها بالشراسف المطرَّزة تطريزًا فنيًا، فتجتذب إعجابَ ضيوفها.

      ومن سماتِها الفنسية الثابتة عطفها على الصغار والضعفاء. أخبرتني زينا بأن والدتها كانت شديدة الاعتناء بها وبسائر أخواتها، ولا تذكر أنها ضربت مرّة واحدة، بل ربتهن والدتها بعنايةٍ وحنان وبساطة وصراحة؛ وهي الميّزاتُ التي فقدتها في طفولتها بمدرسة الراهبات الصارمات اللواتي كُنَّ خالياتٍ من العطف والحنان. كذلك فإنَّ موت والدها باكرًا وغياب والدتها عنها وعن شقيقتها، معظم الأحيان، جعلاها تعرفُ معنى فقدان العطف الأموميّ، فحضنت بناتها، إذ كُنَّ في الطفولة، حضْنَ أم مثالية، ثم عاملتهن معاملة الرفيقات لها إذ شببن عن الطوق. وكانت تردّد على مسامعهن: "لا أحد يمكنه إجبارُ آخر على متابعة الدراسة؛ فمن جدَّ وجد". ولذلك لم تستخدم مع بناتها أسلوب القوَّة بل الإقناع.

      كذلك كانت ماري، طوال حياتها، تحبّ الطبيعة حبًّا جمًّا. ويتجلَّى ذلك في اختيار مظاهر الطبيعة والقرويين والبدويات كمواضيع لرسومها. ذات يومٍ جالستها في الردهة الكبرى بدارها – مقرّ الرسالة الداهشية – حيث كانت معلّقة على الجدار أمامنا لوحةٌ للفنان سترايك، رائعةٌ، عظيمةُ الحجم، موضوعها تندمج فيه الأسطورة بمشاهد الطبيعة، وفي وسط القاعة يُنبوعٌ أخضر كبير تترقرقُ المياهُ فيه، وقد زُحرِفَ بتماثيل أسطورية لكيوبيد وأورفيوس. سألتها: أتحبين الطبيعة كثيرًا؟ راحت تتملَّى الينبوع من خلف نظارتيها المُستديرتين ثم قالت بما فحواه: إن الطبيعة في أكثر مظاهرها، وخاصة في أطيارها وأشجارها وأزهارها، ذاتُ روحيّة أرقى من روحية الإنسان. فلا عجب إذا أحببتُ الطبيعة وإذا أحبّها الأدباءُ والشعراءُ والفنانون الصادقون، ولا عجب إذا لجأ إليها المُتعبون طلبًا للراحة.

      كما أخبرتني كريمتها زينا بأن والدتها كانت ترغبُ في القيام بالأعمال الرياضية وخاصة السير الحثيث. وكانت زينا تصحبها في نزهاتها عبر الجبال وغابات الصنوبر. وفي أثناء ذلك كانت تنعم نظرها في زهرةٍ أو شجرةٍ أو طائرٍ... لأن الطبيعة بالنسبة لها كائنٌ حيّ. ولشدّ ما كانت متَّحدة بعناصر الحياة، فقد كانت تمشي على الأرض كأنما تشعر أنها تدوسُ على شيء حيّ؛ وكانت تعطفُ ليس على الإنسان فحَسب بل على عناصر الطبيعة بما فيها الجمادُ الأصم. رأتني ذات يوم أُنظفُ سجادةً عجمية بمكنسةٍ كهربائية، فدنت مني بتؤدة وهمست في أذني: "إرأفي بها! لا تُلحِّي في تسيير المكنسة عليها!".

ومن سماتها النفسية الثابتة دماثهُ أخلاقها، وعفَّةُ لسانها، ووداعتها، وتواضعها. لقد كانت لي أختًا كبيرة؛ عاشرتُها فأكبرتُها، وأصغيتُ إلى أحاديثها، فتلقّنتُ دروسًا في المحبّة والعطاء والتّضحية والإخاء... كانت في غاية الهدوء واللطافة. تتحدّثُ بصوتٍ خفيض، وتتصرّفُ باحترامٍ وتواضع، فلا تُبادر إلى الحديث إلا إذا بودِرَت إليه.

      وما زلتُ أذكرُ أني رأيتها ذات يومٍ جالسةً في الرواق الطويل بمنزلها – منزل الرسالة الداهشية – تُحاولُ بِشقِّ النفس أن تلبسَ جواربَها. كان الفصلُ شتاءً والبردُ القارسُ يغزو منزلها الشاسع. إنحنَت لتلبسَ جورَبًا، فاستحالَ ذلك عليها. وبدا لي أنها شعرت بألمٍ في ظهرها. لكنها أعادت الكرّة دون جدوى. فما كان منّي إلا أن أسرعتُ نحوها، وانحنيتُ أمامها بُغيةَ مُساعدتها في ارتداء الجوارب. فأمسكت بيدي، وأنهضتني رافضةً أن ألبسها الجورب. ألححت في مساعدتها، لكنها ألحَّت في الرفض اللطيف، وأقسمت على أنها لن تدعني أقوم بإلباسها الجورب. وهكذا فضَّلت أن لا تلبس جواربها. فحملتها إلى غرفتها، واحتجبت فيها، وحملت فكرة عظيمة عن هذا المرأة المتواضعة.

وغير مرةٍ كنتُ أرها مُستاءة عندما تسمعُ أحدَ الزائرين يذمُّ شخصًا في أثناء غيابه، فتذكر كلمة المسيح القائلة "مَن قال لأخيه: يا أحمق، فإنه يستحقُّ عذابَ جهنم". وكان أشد البغضاء إلى نفسها النميمة والاغتياب.

      وكانت ماري، طوال حياتها، تشعر بالغربة حتى بين أفراد عائلتها، وكأنما كانت تشعرُ بأن صلة القربى الحقيقة هي الرابطة الروحيَّة لا الرابطة الماديَّة. فعندما فرغت من دراستها اضطرت إلى مُلازمة أفراد أسرتها في المنزل. كان والداها يعيشان حياةً اجتماعية تضجُّ بالزيارات والاستقبالات، كالآخرين من اللبنانيين الوُجهاء، فشعرَت بالغربة في تلك البيئة الدنيوية التي يهدرُ فيها الوقتُ، وتمرّ الأيام فارغةً عجفاء. وكانت ماري تتألم من نمط تلك الحياة التافهة، ومن الرِّياء الذي يسري في تقاليدها، ولذلك كان أفرادُ أسرتها يرونها غربية الأطوار بينهم. وقد نمَّت الداهشية فيها تلك البذور، فاستغلَّت، في الفترة الثانية، وقتها افضل استغلال.

      كانت ماري امرأةً اجتماعية يغلبُ التفاؤل على طبعها، ولا تخلو أحاديثها من الفكاهة. كما كانت ترغبُ في أن يكون الإنسان عصاميًا يعتمد على نفسه في حلِّ المشاكل. كذلك كانت، طوال حياتها، تؤثر حريَّة القول والكتابة وإبداء الرأي، والاستقلال الشخصيّ، الأمر الذي كان يسبب لها، أحيانًا الشجار مع شقيقاتها. ولذلك كانت تُعجب بالمرأة الأوروبية العاملة المكافحة، وتفضّلها على المرأة الشرقية الخاملة؛ لكنها كانت ترى أن حريَّة المرأة الضرورية يجب أن تكون ضمن حدودٍ معينة، لا سيما على الصعيد الخلفي. وقد جعلها حبّها الحريّة والاستقلال الشخصيّ على خلافٍ في الرأي مع أفراد أسرتها الملتزمين للتقاليد القديمة الحافلة بالنفاق، في حين أن ماري كانت تميل إلى الصراحة والصدق في المعاملة.

وإيثارها الحريّة والاستقلال الشخصيّ جعلها تحترمُ قيمةَ الشخصيّة الفردية سواءٌ في التربية أم في اختيار موضوعات رسمها أو كتابتها. ولذلك كان تركيزُها على رسم الأشخاص ووصفهم، لأنَّ لكلِّ شخصٍ ميزاته وخصائصه التي يستقلُّ بها.

وقد آمنت ماري بمبدأ المحبّة والتسامح الدينيّ، مُذ كانت طالبة، بعد أن رأت في الكثلكة اجتماعاتِ نفاق ومآدبَ رياء، ولاقت من الراهبات القسوة والظلم في فترة دراستها، فنبذَت التعصُّب، ورأت الحقيقةَ غير محصورة في دينٍ واحد، مع أن أفرادَ أسرتها كانوا من الكاثوليك المتعصِّبين. كما كانت ترفضُ أكثر الشكليات والطقوس الدينية الكاثوليكية لا سيّما تلك التي تُفرض على الأطفال.

وبعد اعتناقها الداهشية، آمنت بوحدة الأديان، لأنها رأتها جميعها ذاتَ منبعٍ روحي واحد، وجميعها تحضُّ على الفضيلة وتمنع الرذيلة. ونزعتُها الروحانية الثابتة جعلتها في العهد الثاني من حياتها تعيش حياة تقشفٍ وزُهدٍ بعيدةً عن التَّرف والملاهي والحياة الاجتماعية الصاخبة البرَّاقة التي كانت تعيشُها شقيقتُها لور في قصر الرئاسة. وما كان أسهلَ أن تستفيدَ من تلك الفُرصة السانحة وتقتدي بشقيقتها، لكنها آثرت اتباعَ حياة الفضيلة و"المثل العُليا، فعاشت حياتها عظيمةٌ يإيمانها، عظيمةً بجهادها ونقائها وإخلاصها، عظيمةً بأدبها وفنِّها، عظيمةً بسمُوِّها. لقد تخلَّت عن ارستقراطية الحياة الأرضية المنغمسة بالدم الأزرق لتنتمي إلى العائلة الروحيَّة ذات النسغ النورانيّ.

كانت ماري جبَّارة الإيمان، فولاذية العزيمة، وقد تجلَّت جرأتها النادرة في تبنيها الكتبَ السوداء التي كان يُنشئها الدكتور داهش؛ إذ أصدرتها باسمها غير متهيِّبة من جحافل الحكم الباطل.

ومع معاناتها الاضطهاد، كانت تشعرُ بالطمأنينة النفسيَّة، لأن الداهشيَّة مدتها بالأجوبة الشافية لتساؤلاتها العديدة، فعزمت على مواصلة الجهاد حتى الرمق الأخير من حياتها بعد أن لمستِ الحقيقة الهادية على يديِّ الدكتور داهش.

من أجل تلك المزايا النفسية الفريدة في شخصية ماري حداد، ركَّز جبران مسوح عليها أكثر من تركيزه على الاضطهاد نفسه، ليس لأنها امرأة فحسب، بل أيضًا لمكانتها الاجتماعية وصفاتها النفسية ومواقفها البطولية التي لم تعرف الخنوع والخضوع للظالمين. ورد في رسالةٍ ما تزالُ مخطوطة كتبها جبران مسوح إلى ماري حداد بتاريخ 27 كانون الأول 1946: "والحقيقة أن هذه السجون التي تدخُلينها، يا ماري، ستكون عظيمةً في تاريخ لبنان، وسيقصُدُها الناسُ من كل مكان لزيارة أثرٍ تاريخي عظيم الشأن، ولا سيما أن أختكِ مي (زيادة) سبقتكِ إلى هذه السجون، وسجَّلت فيها هذه الأمجاد، لكي تأتي بعدها وتتمِّمي ما بدأت به...".

عشرُ سنواتٍ (1942 – 1952) عانت خلالها ماري الأمرين. ولا شكَّ بأن التاريخ سيخلِّدها رمزًا للمرأة البطلة المؤمنة المُجاهدة، وللأديبة الفذَّة والفنانة الفريدة، إذ إنها تخلَّت عن راحتها من أجل نُصرة الحرية، ونُصرة عقيدتها، ولم تترك قلمها ولا ريشتها حتى في سجنها.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.