لقاء مع الشاعر حليم دموس
بقلم الأستاذ ظافر كالوس
دخل عليَّ في مكتبي في جريدة التقدّم بحلب، في العام الف وتسعمائة وخمسين، الشاعر الكبير المرحوم حليم دموس الذي كانت تربطني به رابطة حبٍّ وتقدير؛ وبعد أن قبلَّني قال لي:
"هل لديك وقت؟"
قلتُ: ليس الآن، بل على العشاء ادعوك في فندق بارون.
قال ضاحكًا مُبتهجًا: "لقد فزت".
قلتُ: وبماذا؟
قال: "بك يا أخي الحبيب".
وأردف قائلاً: "لقد تصيدتُ سمكةً مُشبعة بالرُّوح الإنسانية وبالقيم الروحية".
قلتُ: تفضل فارو قصتك.
وتربَّع الشاعر الكبير والداهشي الأمين، وقال: "باختصار، أنا داهشي مؤمن، لا بدَّ من أن تسمع آرائي".
قلتُ: لقد قرأت كثيرًا عن الدكتور داهش، وعرفتُ بعض المبادئ الداهشية العامَّة، وما زلتُ أبحث عن أسرار هذه الظاهرة الغريبة. إن لبنان يعيشُ ثورة الداهشية، بل مُعجزاتها؛ عائلةُ السيد جورج حداد أصبحت كلها داهشية، وتبعتها عائلات أخرى عديدة. وسمعت من السيد جوزيف حجار، وهو لشقيقي رفيق العمر، وإنسان صادق، لا يعرف الشرّ أو الحقد، يعيشُ على القيم الإنسانية ولها، ويعامل الآخرين على أساسها، سمعت منه أنه فقد مرَّةً حقيبة يده وفيها وثائق عمله الخاصَّة وبعض أمواله، فراجع الشرطة في بيروت، ولكن دون جدوى. وحين قصد الدكتور داهش، دخلَ عليه قلقًا مُتجهمًا؛ فسأله الدكتور داهش: "ما بك يا صديقي؟" فقال له: "لقد فقدتُ حقيبتي في غفلةٍ مني". فقال له الدكتور "تلفت... إن حقيبتك السوداء بقربك". فتلفَّت جوزيف فوجد حقيبته، التي فقدها، بجواره. قال حليم دموس: "تمهَّل سأروي لك على العشاء التفاصيل . أقولُ لك ماذا إنتابني أنا حليم دمُّس، الداهشيّ المؤمن، الشاعر الذي هز المنابر في لبنان والدول العربية، كيف اصبح يهتز لذكر الداهشية ويترنح أمام القدرة الفائقة التي يتمتَّع بها الدكتور داهش. لقد أوتي الدكتور داهش قوَّةً روحية يستطيع بها أن يسيّطر على المادَّة، أن يخترق نواميس الطبيعة ويجترح المُعجزات! والحق أقول، إن هذا الرجل أُعطيه الخالق – عز وجل – إلى عباده، ونعمةٌ من نعمه. هدية السماء إلى الأرض هو، وطريق الأرض إلى السماء. لم يَجُدِ التاريخ بمثله منذ آلاف السنين. على يديه تنجلي الحقائق، وتنكشفُ الأسرار. إنه نور الأمل، وسفينةُ النجاة لهذا الشرق الغارق في اليأس والتعس والظلام".
ثم نهض حليم من مقعده وهو يقول لك "لن أطيل عليك الآن، وإلى اللقاء على العشاء، في فندق بارون ".
خرج الشاعر المؤمن من مكتبي، وتركني في ذهول. لم أستطع أن أتابع عملي ولا أن أقرا المواد التي تعرض عليَّ. طرت أسبح في الفضاء تتجاذبني طيوفُ فرحٍ ودهشة وانبهار، وتتراءى لي خيالاتٌ وصوت بشرني بكونٍ جديد وعالمٍ جديد. ومع اقتراب الموعد، أسرعتُ إلى الشارع لعلّي أجدُ طريقي، ورحتُ أخطفُ المسافة بين مكتبي والفندق حيث ينتظرني السرّ الخطير، وكأنني ريشةٌ قد عصفت بها الريح. لا أدري كيف أمشي، كيف أسير، إلى أين أقصد نسيتُ الفندق، نسيتُ الدرب!
لقد طرتُ بين الواقع والمجهول لأحط على شرفةِ فندق بارون، وقد انتصب أمامي شبحٌ طويل، وصاح بي:"ها قد أقبلتُ".
تأبطني حليم، فسرتُ معهُ غارقًا ما بين شاعريته وإلهامه وبين الداهشية التي يؤمن بها إيمانًا صافيًا نقيًا.
جلسنا إلى المائدة نتجاذبُ أطراف الحديث. والحليمُ يُفضي بمكنوناتِ القلبِ ويُفيضُ برائع الكلام، وأنا أُصغي إليه بكل جوارحي وأؤثر الصمت حتى لا أجرح الأنغام. حدثني كثيرًا، وكان حديثه يتسربُ من الأذن إلى القلب فالجوارح... حدَّثني الشاعرُ الكبير عن عروس شعره، الرسالة الداهشية التي ألهبته وألهمته، فأعطاها ما في الرُّوح والقلب، ووقف لها نفسه وأدبه، وجاهدَ في سبيلها جهاد الجبابرة الرآبلة الأبطال. حدَّثني عن جمال رسالته الجديدة وفتنتها وكيميائها العجيبة التي حوَّلته، وفق تعبيره، من ماديّ صرفٍ إلى روحيّ صرف، فانصرفَ عن اهتماماته العادية الخاصّة إلى الاهتمام بقضايا الروح والإنسان، ونشر المحبّة والإخاء ومبادئ العدالة والمساواةِ بين البشر كافة.
ورحنا نُحلقُ في أجواء الداهشية الرحبة وتجوّلت في مفاتنها العجيبة. وذكر لي ما يتعرَّضُ له المؤمنون بها من سخرية الجهلاء وتآمرهم، وكيف أن هؤلاء الجهلاء لا يدركون أنهم زائلون، وأن القوة الروحيّة هي الباقية الخالدة، تعيشُ في قلوبِ المؤمنين بها إلى الأبد، وأن الشرَّ ليس له خلود، والخير وحده خالدٌ مع الزمن لأنه أقوى من الزمن. وقد تذكَّرنا الآية الكريمة التي تقول: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسولٍ إلا كانوا به يستهزئون) (سورة يس: آية (30).
وهكذا أدركت ظاهرة التحوّل، وظهرت المُعجزة الكبرى التي تضافُ إلى مُعجزات الداهشية الخارقة. لم يكن من الصعب عليَّ أن ألمس الفرق بين الرجلين: بين شاعر الأمس وشاعر اليوم، بين حليم الأمس الذي كان في كل وادٍ يهيم، ويعبقُ شعرهُ برائحةِ المادّة المُنبعثة من الإطراء والتزلّف والمديح واقتناص المناسبة، وبين حليم اليوم المترفّع عن الدنيويات، المحلّق في سماء الوحي والروح، الداعي لعبادة الديَّان ووحدةِ الأديان ونشر المحبَّة والأمان.
لقد ذُهلت لهذا التغير. وما بين شاعرية حليم الفذَّة ووقائع تُلمسُ وتُرى جرت بين يديه وأمام ناظريه، تلك المُعجزات الخارقة التي اجترحها الدكتور داهش، وحفظها حليم دموس عن ظهر قلب، أقمتُ لي عالمًا أعيشُ فيه ساعاتٍ من الزمن العجيب!
طال زمانُ عالمي ما طال العشاء السحري، إلى أن اقتحمت خيوط الفجر شبابيك الفندق، فخرجنا منه نسيرُ في شوارع مدينة حلب التي هجعت، فلا تدري من هما الطارئَان اللذان يقطعان أخاديدها، وما هو حديثهما. لم تدرِ حلب أن أملأ عذبًا يرفرف في سمائها، وأن أحاديث المحبَّة والنور والهداية تضوعُ مع نسيمها، وتسهرُ مع نجومها وناسها نيام.
وفي اليوم التالي سافر حليم إلى بيروت. وكان كلما تسنَّى له أن يزور حلب، يهرعُ إليَّ مُشتاقًا لنقضي بعض السهرات الرائعة، وليس لدينا سوى الشعر وحديث الداهشية التي كان مؤمنًا بها أشدّ الإيمان.
واتفق أن طال غيابه عني، فاشتدَّ شوقي إليه وحنيني إلى سهراته الرائعة ومجالسه المُمتعة، فدعوته لقضاءِ فصل الربيع في حلب؛ فردَّ عليَّ بأبياتٍ من شعره الغالي حفظتها في قلبي:
فتى "التقـــــــــدم" قد حيــــــــــــــــاك لبنــــــــــــــــانُ وحـــــــــــــــــام حولك أنصــــــــــارُ وإخوانُ
دعوتنـــــــــــــي، فأتــــــــاـك الشعر مبتـــــــــدرًا لخدمة الشعب؛ إن الشعب يقظانُ
فاسمع حنيني عسى الرحمنُ يجمعنا كمــــــــا يعلــــــــــــم إنجيـــــــــــل وقــــــــــــــــــرآن
فأخذتُ بهذه الأبيات اللطيفة الرائعة، وتذكَّرت ما كان يردّد على مسمعي من كلامه العذب وشعره الروحي الخالد، ودعوته المؤمنة الصادقة لنبذ التعصُّب وتوحيد الأهداف، وتألف القلوب، والرجوع إلى الله الواحد الأحد، خالق الخلائق ومُبدع الأكوان. ولكم كنتُ مُعجبًا ومتأثرًا بهذه النفس النقية، وتلك الكلمات المفتلذة من الروح:
بالداهشية قد عرفتُ محمدًا وتلوتُ قرآن الهدى المُتسامي
وعرفتُ نصرانيتي ومسيحها لمَّــــــــا عرفتُ حقيقة الإســـــــلام
أو حين يقول:
ولـــــــــــــــم أرَ مثــــــل الداهشية درةً مُباركةً تدعو لكشفِ الحقائق
حقائق إنجيلٍ وآياتِ مصحفٍ لتعزيز أدياــــــــنٍ حسانٍ شقائق
تعاليـــم موسى والمسيح وأحمد كينبوع نــــــــــــورٍ بالسعادة دافق
أما الدكتور داهش فقد هجر لبنان؛ ولكن الرُّوح ما زالت في أغصان الأرز، تعيشُ ليومٍ تصبحُ فيه وارفةً تحتضن الجبل وتمد ذراعيها إلى زُرقةِ البحر لتمتطيه إلى كل أفقٍ كبير.