خروج سمعان بطرس من السجن
من كتاب مذكَّرات يسوع الناصري
بقلم الدكتور داهش
وبانتهاء العام خرج سمعانُ من السجن،
ولا لجريرةٍ أقدم عليها،
ولكنه الظلمُ الذي يخيِّم على ربوعِ هذا العالمِ الكثيرِ الشرور.
وكان أولُ عمل قام به هو الإسراع مع شقيقهِ أندرَاوُس
إلى مدينةِ الناصرة حيثُ يعيشُ يسُوع.
وكان اللقاءُ حافلاً، مُشبعًا بأحاديثِ المودَّة والولاء.
وأصغى الشقيقان بخشوعٍ إلى الحكمِ
التي كان يُلقيها يسُوعُ الفتى عليهما.
وأمضيا في ضيافةِ عائلتهِ أسبوعين كاملين.
وعندما دنتْ ساعةُ الوداع،
كان المؤمنان قد تزوَّدا في خلال إقامتهما
كل ما هما بحاجةٍ شديدةٍ إليهِ
من النصائح والإرشادات.
ومضت أسابيع كثيرةٌ،
وتصرَّمتْ خُيوطها إلى غير ما عودة،
والمسيحُ الفتى يعظُ أهلَ قريته،
ويدعُوهُم إلى التمسُّكِ بأهدابِ الفضيلة.
ولكن عبثًا!
فإنهم كانوا يهزأون به، ويعيرونه بلفظةِ "مخبول"، وينتهرون والديه، ويضطهدون أشقاءه.
وفي سهرةٍ عائلية،
بينما كان يعظ عائلته ويدعوهم للتسامح،
لأنهم قد اضطهدوا في صباحِ ذلك النهار،
إذا بيُوسى ويهُوذا يُهينانِه، قائلين لهُ:
- إلى متى ونحن نتحملُ
إهاناتِ واضطهاداتِ أبناءِ قريتنا من أجلك؟
أما كفاكَ هذيانًا، يا هذا؟
أولا تكُفُّ عن دَعوتك الباطلة وتخرُّصاتِك الفاسدة؟
ألا تُريحنا وتُريحُ نفسك؟
هيا وارحل عن هذه القرية.
فإننا لا نُصبحُ ولا نُمسي إلا والمُشاغباتُ في رِكَابِنا.
كل ذلك بسببك:
حتى السلطاتُ الرومانية باتت تنظر إلينا شزرًا،
بسبب تعاليمكَ السخيفة:
وأردفَ يعقوبُ قائلاً:
- اسمع أيها الميسيح!
بلغني اليوم من صديقٍ موظفٍ في دائرةِ الشرطة الخفيّة
أنَّ السلطاتِ تُراقبك أدَّقّ مُراقبة،
وهي تظنُّ أن يدًا أجنبيةً
تدفعُكَ لإذاعة ما تدعو الناس إليهِ
من الانتقاض على القوَّة الغاشمة.
وهي تظنّ أنك تعنيها بأقوالك.
فالحذر أيها المغرورُ، وإلا فالويلُ ثم الويلُ لك...
وللحالِ انبرى شقيقُه سمعانُ قائلاً:
- هذا هو التحذير الأخيرُ نعيدهُ على مسمعك...
فإن وعيتهُ وتقبَّلته، فامكُث معنا لأنك منَّا،
وإلا ففي بلاد الله الرحبةِ مُتسعٌ لدعايتك...
فقد اكتفينا من الاضطهاداتِ التي تقعُ على عاتقنا في كلِّ يومٍ من أجلِك.
***
فأجبتُهُم بصوتٍ مُتزنٍ هادئٍ:
- يا إخوَتي الأعزاء،
طوباكم إذا اضطهدوكم من أجل كلمة الله العادلة،
وطوبى لأرواحكم إذا عذّبوا أجسادكمُ الترابية،
لأنني أصدقكُمُ، يا إخوتي،
أنَّ أجركُم يكونُ عظيمًا جدًا في السماء.
فطُوباكُم إذا صبرتُم،
لأن من يصبر إلى النهاية فذاك يخلُص.
***
وللحالِ ارتفعت أصواتُهُم الأربعة قائلينَ معًا:
- إن أجرَ السماءِ هذا ندعُهُ لكَ،
لأننا نتبرأُ مِنهُ، ولا نُريدُهُ.
فكفاكَ شقشقةَ لسان أيُّها الإنسان!
***
ونظرتُ أمامي بذُهُولٍ لأرَى شقيقتيّ اليافعتين،
وهُما تذرفانِ الدمعَ السَّخين،
لأنهما لا تستطيعانِ عمل شيءٍ لأجلي.
***
وكانت والدتي تؤيدُ إخوَتي في بَعضِ الأحيان،
لتعودَ فتؤيدني حينًا آخر.
إنها أم... تريدُ أن لا ترى أولادها يتخاصمون.
لهذا التجاتْ إلى هذه الطريقة.
وعندما أعياها الأمر، نظرت إلى أبي الأرضي يُوسُف.
وقالتْ له:
- ما بِكَ صامتٌ لا تتكلّم؟
فأجابها بحُزنٍ:
- إنني، وأيّمُ الحقّ، حائرٌ، لا أدري بماذا أتكلّم!
وأنتِ تعرفين الأسباب أكثرَ من معرفتي إيَّاها.
- وأنتَ، ألا تعرفُها؟
- كلا، كلا. لا أعرفُها كمعرفتكِ أنتِ.
- ألا تريدُ أن تتكلّم مع ابنكَ؟
- إنه إبنُ السماءِ وليس إبني.
- بل ابنُكَ أنتَ.
- هو عطيةُ السماءِ لنا وللجميع.
إنه ليس من الأرض.
ومن كان ليس من هذه الأرض
فتعاليمُهُ لا شكَّ تكونُ سماوية.
فكيف لي أن أمنعهُ وهو رسُول الهداية؟
- إصفح عني، يا يُوسُف،
إذا قلتُ لك إنني لا أُؤمنُ به،
لأنَّ حديثهُ غايةٌ في الغرابة.
- أما أنا فإنني أؤمنُ بحديثهِ وبتعاليمهِ.
- أولَيسَ يدعو إلى الفضيلة؟
- أوَلَستِ ترينَهُ كيفَ يمضي أيامَهُ
بتبَتُّلٍ وقدسيةٍ وعبادة؟
أيوجدُ في قريتنا، والقرى الأخرى،
من يسيرُ على منواله؟
أوليس في هذا
الدليلُ الثابتُ على أنه ليس بشريًّا؟
- لو كان ما تقول
إذًا لما كان أتى بالطريقةِ البشرية!
- وكيف هذا؟ ألا تذكرين ملاك الرب
- عندما أتاني في الحلم، قائلاً لي:
"لا تخفْ، يا يُوسُف.
فإنَّ امرأتكَ قد حَبِلَتْ به من الروح القُدُس".
- نعم، إنني أذكُرُ هذا، وأنا في غايةِ العَجَب.
لأنني حتى الساعة هذه
لا أستطيعُ تفسير هذا اللغز الغريب!
وللحال أجاب يسوع:
- عبثًا تحاولين حل هذا اللغز، يا أماه.
- فأقصري التنقيب عنه،
- واعلمي بأنني لستُ من أرضكم هذه.
أنا رسولُ السماءِ إلى الأرض،
أرسلني من بيديه كل شيء من مكانٍ سعيدٍ دائم البهاء
كي أنقذ أهل دُنياكم.
أما أمرُ وجودي بين ظهرانيكم فهو الحقيقةُ التي يجب أن تأخذوها بعين العناية والرعاية، لا الكيفية التي كيَّفتني.
إذ مهما حاولتِ وسواكِ الوصول إلى المعرفة، فلن تستطيعوا... حتى أعودَ، ثانيةً، إلى هذه الأرض، بعد انتقالي.
وإذ ذاك تتكشَّفُ الحقيقة لمن يجبُ أن يعرفها، كلٌّ حسبَ استحقاقه.