بماذا تتميَّز الرسالة الداهشيَّة
عن سائر الرسالات الروحيَّة
أهنئ الإخوة و الأخوات بمناسبة عيد رأس السنة الداهشية . و أهنئكم أيضاً بافتتاح المكتبة الداهشية في نيويورك , قلب أميركا النابض؛ هذه المكتبة التي سوف تكون , بإذن الله تعالى , مكتبة معرفة و نور داهشيّ, و مركزاً من مراكز انطلاق رسالتنا العظيمة , هذه الرسالة السماوية التي لم يقدِّرها حق قدرها وطننا العربي التعيس , فلجأت الى أميركا لتُسمع صوتها البهيّ , و لتنطلق منها الى جميع أرجاء العالم , بإذن الله.
فهنيئاً لكم عقيدتكم هذه التي ميَّزها الله عن غيرها من الرسالات الروحيَّة , و التي لو لم تستحقونها لما عرَّفتكم بنفسها , و لما دنت منكم لتنفحكم ببعضٍ من جمالها و كمالها.
و قد يسألنا سائل: بماذا تتميَّز رسالتكم عن سواها من الرسالات السماوية ؟ و ما هي التعاليم الداهشية الجديدة التي أتت بها لتوضّح ما سكتت عنه الرسالات السابقة؟
هذه الأسئلة كثيراً ما سمعتها تُطرح على مسامع الداهشيين و بعض أشياعها يجيبون عنها بالقول إن عقيدتهم هي رسالة محبة و فضيلة و إخاء بين الناس, و إنها تحضّ على مزاولة الخير , فتامر بطاعة الله و خشيته و العمل بوصاياه و الإبتعاد عما نهى عنه, و أنها ( أي الرسالة الداهشية ) جاءت لتؤكد وحدة الأديان المنزلة , فتدعو الى الإيمان الراسخ بها و العمل الصادق بروح تعاليمها . فهي تحث المُسلم على التقيد التامّ بروح دينه الحنيف, و تطلب من المسيحي الالتزام الصادق بتعاليم السيد المسيح و إنجيله الكريم , و تدعو الموسوي الى العمل المنزل بشرائع موسى الكليم , تقول لغيرهم من أتباع مختلف الملل: اعملوا بإخلاص بروح تعاليم دياناتكم.
تلك الاجابات التي كانت تردَّد عن قصد على مسامع السائلين عن حقيقة الرسالة الداهشية , مع أن فيها كثيراً من الصحة , تظل ناقصة , و لا تُعطي العقيدة حقَّها الكامل من السمو و الغنى الفكري. ومع هذا , فقد كان لتلك الإجابات ما يبررها في السابق بسبب الظروف الاجتماعية و الحياتية المتزمِّتة التي نشأت فيها الرسالة الداهشية , و التي كان يعمل و يعيش فيها الدكتور داهش و أتباعه ؛ أعني البيئة العربية المنغلقة على نفسها فكرياً , و المناهضة لكل فكرٍ و انفتاحٍ روحيين جديدين.
فبسبب العداء السافر الذي جابهت به السلطات اللبنانية و رجال الدين الدكتور داهش و انصاره ظلماً و عدواناً , فضلاً عن التعصُّب الديني المُستشري في الأوساط اللبنانية , والذي كانت تزكِّيه المؤسَّسات و المحافل الدينية , سواء منها المسيحية او الإسلامية , قضت الظروف على الداهشيين في لبنان و الأقطار العربية أن يتكلموا على رسالتهم مع الآخرين أحياناً كثيرة في حذر كبير, وأحياناً بأساليب غير مباشرة توافق عقلية السامعين و مزاجهم.
تلك العوائق كانت من جهة. اما العوائق الأخرى التي حملت مؤسِّس الرسالة و اتباعه على أن يحدثوا الآخرين برسالتهم في كثير من التحفظ و التبسيط, فترجع أيضاً الى أن الرسالة الداهشية أتت بتعاليمٍ روحيَّة جديدة بعضها غريب غير مألوف عند الناس في ضوء خبراتهم و مفاهيمهم , و بعضها الآخر يصعب تفسيره لأبعاده العميقة , الأمر الذي يتطلَّب قدراً من النضج الروحي لاستيعابه.
التعاليم الداهشية , على سبيل المثال, تؤمن إيماناً قاطعاً بأن الكائنات في العوالم كافة تنطوي على ملكات وعيٍ و إدراك تستطيع بها التمييز بين الخير و الشر. و تعتبر التعاليم الداهشية أن الوعي والإدراك , على اختلاف درجاتهما و مستوياتهما , أصل تنوع الأشياء. وهناك أيضاً شروح صعبة تتعلَّق بالسيَّالات في شقيّها الماديّ و الروحيّ, و شروح عن السببية الروحية و سواها من التعاليم الروحية العميقة التي كان الدكتور داهش أحياناً يشرح قسماً منها لبعض تلامذته دون سواهم.
تلك التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة كان من الصعب تقديمها و شرحها للآخرين بدون الإستدعاء والتمهيد النفسيين لها.و قد كان الدكتور داهش , لما يتمتع به من حكمة وذكاء, يعمل, و يوصي أتباعه بان يعملوا , بالمبدأ القائل :" الويل لمن يحاول تعليم الناس فوق ما تتحمل عقولهم". كان الدكتور داهش و تلامذته , بوجه عام , يخاطبون الناس وفق مداركهم , و على قدر ما تتحمله نفوسهم .
لهذه الأسباب لم يكن من السهل على الداهشيين أن يعلنوا للملإ بكل وضوح أن عقيدتهم هي رسالة العصر الحديث و قد جاءت مؤيدة من السماء لتطرح جانباً ما تراكم من القشور و العادات الدينية البالية التي تسيء الى روح التعاليم السماوية ,و ان يقولوا للناس إن رسالتهم جاءت بمفاهيم جديدة لم توضح من قبل , و لم يكشف النقاب عن أسرارها في الرسالات السابقة.
لم يكن من اليسير على الداهشيين و هم في بيئة تفشى فيها التعصُّب الديني و تسلَّط عليها رجال الدين أن يقولوا للسائلين من مسيحيين و مسلمين و غيرهم إن جميع تعاليم الديانات المنزلة المُعطاة لهم , بما في ذلك التعاليم الداهشية , لا يمكن ان تمثل , منفردة أو مجتمعة , إلاً البعض القليل من الحقائق الروحية , و إن هذه الحقائق التي أعطيت للبشر حتى الآن , تأتي على درجات مختلفة من الرقي و التفاوت الروحي العام للناس الذين هبطت من أجلهم , أي القريبة من خصائصهم النفسية بوجه عام .
فشرائع موسى القائلة : " السنّ بالسنّ , والقاتل يقتل , والزاني يرجم " هي على سبيل المثال , مفاهيم إنتقام روحيّة كانت قريبة من نفسيّة شعب موسى ومن مستواه الروحيّ . وتصوّر الجنّة والنار ومقاتلة أعداء اللّه وتعدّد الزوجات هي مفاهيم وتشريعات كانت تناسب طبائع عرب البادية , وتنسجم مع خصائصهم النفسيّة . وكذلك الأمر بالنسبة الى تعاليم المحبّة والرحمة والغفران والتساهل التي نادى وبشّر بها سيّد الأطهار , له المجد ؛ فهي أيضاً مبادىء رحمة وغفران روحيّة كانت قريبة ممّا اتّصف به تلامذة السيّد المسيح وأنصاره من نفسيّة وخصال .
ومع هذا , فإنّ جميع تلك المفاهيم والمبادىء الروحيّة , وإن بدت مختلفة في مستوياتها وما تعوّل عليه , فإنّها تنبع من مصادر الحقائق الروحيّة الواحدة , وتشكّل منفردة أو مجتمعة , أجزاء من المعرفة الروحيّة الشاملة .
والحقائق الروحيّة التي جاءت بها الأديان السماويّة لتكشف بعضها هي حقائق غير محدودة ؛ حدودها اللّه , جلّ جلاله , وقوانينها كالقوانين الطبيعيّة موجودة منذ الأزل , لا تغيّر فيها ولا تبديل , وإنّما يماط اللثام عن بعض حقائقها تدريجيّاً بحسب الرقي والأستحقاق الروحيّين .
وكما إنّ القوانين الطبيعيّة لا يتمّ إكتشافها إلاّ بالتدرّج , بحسب التطوّر العلميّ , كذلك الأمر بالنسبة الى الحقائق الروحيّة ؛ فهي أيضاً لا يتمّ الكشف عنها إلاّ بالتدرّج , وبحسب الرقي الروحيّ . والحقّ أنّ القوانين الطبيعيّة والقوانين الروحيّة في العوالم المادّيّة توأمان لا ينفصمان , بعضهما مرتبط بالآخر .
وكما إنّ القوانين الطبيعيّة هي الضوابط والثوابت للجوانب المادّيّة من السيّالات ( بمعنى أنّها القوانين المتعلّقة بالشكل الخارجي للكائنات ) كقوانين الجاذبيّة والحركة والتماسك النوويّ وغيرها , كذلك الأمر بالنسبة الى القوانين الروحيّة ؛ فهي الضوابط والثوابت للجوانب الروحيّة من السيّالات , أي أنّها القوانين التي هي علّة التغيّرات والتبدّلات والتنوّعات والبعث والفناء وما يطرأ على الكائنات من أحداث وأحوال .
وقوانين الطبيعة والحياة لا تهب أسرارها جزافاً لمن لا يستحقّها ؛ فهي تمنحها , على درجات مختلفة , لمن استحقّها وسعى إليها بالعلم والرقي الروحيّ . وقد أكّدت الظاهرات الداهشيّة وكتابات الدكتور داهش الملهمة أنّ درجات المعرفة , على تفاوتها , ليست محصورة في عالمنا الأرضيّ . أفراداً وجماعات , فحسب , وإنّما تتعدّاهم الى جميع عوالم هذا الكون اللامتناهي .
فكلّما تسفّل الكوكب , عمّ فيه الجهل والتخلّف والبؤس والشقاء , وحُجِبت عنه المعرفة الروحيّة . وكلّما نبل وسما , إزدادت فيه المعرفة الروحيّة وشعّت , وقطنت في ربوعه أسباب الهناء والسعادة .
وتتميّز الرسالة الداهشيّة عن غيرها من الرسالات السماويّة بأنّها , من حيث الجوهر , ليست
مكوّنة من تعاليم محدّدة يمكن حصرها في صفحات الكتب ؛ وليست رسالة قائمة , في الدرجة الأولى , على شرائع ونصوص دينيّة معيّنة , كما هي الحال في سائر الأديان السماويّة , وبالتحديد في الرسالتين السماويّتين اليهوديّة والإسلاميّة , بقدر ما هي رسالة قيم وأخلاق ومبادىء ومعرفة روحيّة , مع ما يستتبعه ذلك من مسؤوليّة خلقيّة ونفسيّة . وخلاصة القول إنّها رسالة أتت لتقود من اتّبعها وعمل بوصاياها الى مسالك المعرفة الروحيّة التي تؤدّي الى معارج الرقيّ الروحيّ , ومن ثمّ الى الخلاص والعودة الى منابع الروح , الى موطن الغبطة والسعادة والبهاء الأبديّة .
وعليه , فإنّ الرسالة الداهشيّة تعطي الفرد القواعد العامة لمبادئها . ومن ثمّ تتوسّع هذه المفاهيم وتتوضّح على درجات ونسب مختلفة بحسب إستحقاق الفرد ومستواه الروحيّ . وهي تزداد اتّضاحاً في نفسه كلّما ازداد صعوداً في معارج الرقيّ الروحيّ .
والرقيّ الروحيّ في العقيدة الداهشيّة , لا يتمّ من خلال التأمّلات الفكريّة المعزولة عن الممارسات والتجارب , بل هي تأتي من مجاهدة النفس بتهذيبها من نزواتها وهفواتها , ودفعها نحو عمل الخير والتمسّك بقيم الحقّ والطهر والأعمال الجليلة .
والمفاهيم الداهشيّة , بطبيعتها الشاملة المنفتحة على قيم الخير والحقّ , تنمو وتتفاعل في نفس معتنقها كلّما سما . وهي تمتزج في كيانه لتصبح كائناً واعظاً وضميراً حيّاً سامياً في داخله , يؤثّر ويتأثّر بكلّ ما حوله من أمور ووقائع ومشاهد وقيم , وتجعله يتحسّس في أعماق نفسه , أينما حلّ , أنّ ما يحيط به , سواء أكان بشراً أم حيواناً أم نباتاً أم جماداً , كائنات عاقلة خلقها اللّه , تخضع مثله لتجارب عوالمها , وتستحقّ الرحمة والغفران ؛ وهي تختلف عنه في النوع والمظهر , ولكنّها تشترك معه في أنّ أصلها وجوهرها روحيّان تخضع لقانون التقمّص العادل إسوةً به , وأنّها وجدت لتمتحن في سبيل تحسين سيّالاتها الروحيّة , إذا أمكن , وأنّ إمتحانها سيتكرّر في دورات حياة متعاقبة , فتهبط أو تصعد في سلّم الرقيّ الروحيّ حتى إذا استطاع المرء اجتيازه , أدّى به الى مواطن السعادة والبهاء والخلاص , الى ملكوت اللّه جلّ جلاله .
والداهشيّ المؤمن بعقيدته ينظر الى شؤون الحياة بمختلف وجوهها في ضوء التعاليم الداهشيّة , فتصبح القيم الداهشيّة وحدها هي الحقيقة والحياة .
والعقيدة الداهشيّة ليست مُستقاة من منابع الإفتراضات والإستنتاجات الفلسفيّة , ولا هي صوفيّة النزعة والنظرة كما هي الحال في بعض العقائد الشرقيّة التي يدّعي المتطرّفون من أصحابها أنّها وليدة التأمّلات الصافية والومضات الإشراقيّة التي تأتيهم فجأة وعلى دفعات , فتدعهم يكتشفون أسرار الكون , ويندمجون به !
تلك المزاعم يرفضها الداهشيّون لأنّها تفتقر الى أدنى حدود التواضع , فتألّه مدّعيها بالرغم من وضع الإنسان الحقير الزري في سلّم الحضارات الكونيّة . وهذه المزاعم مناقضة أيضاً لقوانين الطبيعة والحياة التي لا تمنح أسرارها بلا جهد , بل تعطيها فقط بمقدار لمن إستحقّها بالعلم والرقيّ الروحيّ .
والداهشيّون يرفضون هذه العقائد والفلسفات لأنّها تفتقر أيضاً الى البراهين الملموسة والى منطق العقل والى مشاركة الأخرين في التجربة . والأهم هو أنّ هذه العقائد الشرقيّة التي وجدت لها بعض المؤيّدين في الغرب تقف موقف اللامبالاة من الشرور والمعاصي والمظالم التي ترتكب بين الناس , وتساوي بين الخير والشرّ على إنّهما وجهان مختلفان للحقيقة الواحدة التي لا وجود لها إلاّ في مخيّلة الناس , كما يزعمون . وغالباً ما تكون هذه الفلسفات خالية من القيم والتعاليم الروحيّة التي هدفها السمو والرقيّ الروحيّان للإنسان .
وفي إعتقادي أنَّ من الأسباب التي حالت دون حصر التعاليم الداهشيّة في كتاب معين ما يرجع الى أن التعاليم الداهشيّة المُعطاة لا تشكّل إلاّ الجزء اليسير من الحقائق الروحيّة الشاملة التي هي حقائق الحياة .
وعلى الجملة , يمكننا القول إنّ القواعد الأساسيّة للرسالة يمكن إستخلاص كثير منها من خلال مطالعة كتب الدكتور داهش المتعدّدة المتنوّعة , ومن خلال دراسة ظاهراته الروحيّة المدوّنة , ومن خلال الرسائل الروحيّة التي كانت تهبط عليه , ومن خلال ما دوّن من أحاديثه وأقواله تدويناً موثوقاً , ومن خلال الإضطلاع على كتب أتباعه . ويجد المرء بعضاً من حقائقها في الكتب المُقدّسة , وفي كتب العلوم الطبيعيّة ولا سيّما الفيزياء الحديثة . ويمكن لمن صَفَتْ نفسه أن يشعر بها ويتحسّسها في عناصر الطبيعة , وفي بواطن الأمور والأحداث , وفي وجود الكائنات وتنوّعها .
والمفاهيم الداهشيّة , في آفاقها الكونيّة , لا يمكن حصرها في بعض الكتب . ذلك أنّ حصر الشيء هو تحديده , والرسالة الداهشيّة , في أبعادها الروحيّة , هي فوق الحصر ؛ وهي تشمل في تعاليمها , من حيث الجوهر , جميع الرسالات السماويّة .