والِـدَةُ داهِش
بقلم أنطون مرعب الداهِشي
هي سيّدةٌ مثاليَّة بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة . وهي ذات فضيلة وتقوى ، فكلُّ من عرفها يتأكَّد له أَنَّ الكتاب المقدَّس لم يكن ليُفارق يدها . وبتكرار السنين أصبحَتْ مُلِمَّةً بكلّ آيةٍ فيه ، بعهدَيْه القديم والجديد ، إذْ أصبحَتْ حجَّّةً ذات برهان فوري . فما تكاد تسألها عن آيةٍ أو واقعةٍ أو عظةٍ أو حربٍ أو حكمةٍ تودُّ أن تعرف مكانها في الكتاب المقدَّس ، حتى تبادرك فوراً وتُعلمك عن مكانها بالصفحة والعدد .
إنَّ هذه السيّدة المقتدرة تُوفي قرينها في 25 كانون الأوّل – عام 1920، وكان طفلها داهش لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره ، فضلاً عن شقيقاته الأربع .
وقد شقيت والدتُهم ، وواصَلَتْ كفاحها في الحياة بقوّة وصلابة ، وعنفوان وجبروت ، وأخيراً عُيِّنَتْ في مدرسة البنات الأمريكيّة بمدينة طرابلس (لبنان).
وعندما شبَّ نجلُها داهش عن الطوق كان سرورها به عظيماً ، وفرحُها لا يُعادله فرح .
ودارت الأيامُ دورتها ...
وإذا بعام 1942 تُدويّ أبواقه العنيفة في مدينة بيروت ، وفي لبنان بأسره ، مذيعةً أنباءَ الخوارق التي يجترحها الدكتور داهش . فلم يبقَ منزل أو شارع أو متجر أو نادٍ أو حقل أو غابٌ لم يسمَعْ بالمعجزات التي تتمّ على يَدَيْ هذا الشابّ ، وهو لا يزال بمقتبل العمر .
وضجَّت المدُنُ والقُرى ، وهرعَت الجماهير إلى منزل هذا الفتى المعجز ، وشاهدوا بأُمّ أَعينهم خوارق مُزلزلة ، فخرجوا مذهولين مأخوذين ، وراحوا يُذيعون أنباءَ ما شاهدوه من مستحيلات خرقت النواميس الطبيعيّة .
واعتنق الكثيرون الداهشية بعدما لمسوا ما لمسوه ، وشاهدوا ما شاهدوه . أو لم تُؤْمنْ ؟ بلى ، لكنْ ليطمئنَّ قلبي . وقد اطمأنَّتْ قلوبُهم فاعتنقوا الداهشية بإيمانٍ وطيد وعزمٍ لا يتزعزع مهما عصفت الريح الزعزع .
وممن اعتنقوا الداهشيَّة السيّد جورج حداد عديل رئيس الجمهوريّة الباغية بشارة ألخوري الطاغية .
فقد اعتنق جورج حداد الداهشيّة ، وشاركته بالعقيدة زوجتهُ السيدة ماري حداد الأديبة والفنّانة المشهورة ، وكذلك كريماتها : ماجدا ، آندره ، وزينا .
وأَوَّل من اعتنق الداهشيّة الصحافي المعروف يوسف الحاج ، والشاعر الغرّيد حليم دمّوس والنطاسي ألاختصاصي جورج خبصا ، والدكتور فريد أبو سليمان ، وجوزف حجّار قرين آندره ابنة ماري حدّاد ، وغيرهم كثيرون ممّن آمنوا بالداهشيّة وتمسكوا بها تمسُّك الغريق بقشَّة النجاة .
ومنذ الدقيقة التي اعتنقت فيها ماري حدّاد الداهشيّة استاءَ شقيقها المتكبّر ميشال شيحا ، كما استاءَ هنري فرعون – وميشال شيحا قرين شقيقة هنري فرعون . كما ذُهِلَتْ لور زوجة بشارة الخوري وهي شقيقة ماري حدّاد التي عند اعتناقها وعائلتها الداهشيّة ، لم تكن شقيقتها لور قد تسنّمت الرئاسة بعد .
وفي خلال عام 1943 جلس الباغية بشارة الخوري على كرسيّ الحكم بلبنان . إذ أصبح رئيساً للجمهوريّة . ومنذ الدقيقة التي اعتلى فيها كرسيّ الرئاسة ابتدأ اضطهاد داهش . وقد ظنَّ بشارة الخوري أنه من السهل إلقاء القبض عليه ؛ وأحبّ أن يُسوّد صحيفته تجاه الرأي العام ، فأَرسل رجال التحريّ يُرابطون حول منزل داهش ، يُحصون أنفاس زوّاره ، ويملأون تقاريرهم بأسمائهم وساعات ولوجهم منزل مؤسّس الداهشيّة .
ومضت تسعة شهور طويلة بأيّامها وأسابيعها ، ولم تستطع زبانيّةُ الحاكم الظالم أن تدين داهشاً بأيّة بيّنة تُمكّنها من إِلقاء القبض عليه ، إذْ فشلوا وكان فشلهُم ذريعاً .
حينذاك شمَّر بشارة الخوري عن زنديه وخَرق قوانين البلاد ، وهشَّمَ موادّ الدستور القائل إِنَّ حريّة العقيدة مصونة ، فالإنسان حرٌّ بعقيدته تمام الحريّة .
قلتُ إِنَّ المجرم بشارة هشَّم دستور البلاد إذْ أرسَلَ شرذمة من عصابة أوغادٍ مسلَّحين بالمسدَّسات والهراوات والخناجر ، وقصدهم اغتيال داهش . وللمرَّة الثانية أَنقذَتْه عينُ العناية ، ومرَّغَتْ أُنوفَهم بالرَّغام .
وحرَّر محمّد علي فيَّاض تقريراً كاذباً أُمْلِيَ عليه ، واتَّهم فيه داهشاً بمحاولة اغتيال شرذمة المجرمين المُرسَلة لاغتياله . يا للهوان ! ويا للشَّرَف المسفوح على أعتاب الرئاسة ! كوميسير شرطة يُحرّر تقريراً كاذباً أُمْلِيَ عليه ، سافحاً شرفه ، مُسخّراً ضميره ، بائعاً ذمّته للشيطان الرجيم ! هذا هو الواقع ، وهذا ما حدث بتاريخ 28 آب 1944 ، ذلك اليوم المشؤوم المشحون بالأحقاد القَذِرة ، ذلك اليوم الذي لا ولن ينساه أيُّ داهشيّ أو داهشيّة ، ولذلك اليوم حساب حتى لو تأخَّر إلى يوم الحساب .
وأُوقِفَ داهش ، وأُطْلِقَ سراح المجرمين برعاية سيّدهم زعيم السفّاحين .
وطُرِبَ بشارة الخوري ، وهلَّلَ ميشال شيحا ، وصفَّقَ هنري فرعون صاحب اللطخة الخنزيريّة المتربّعة على خدّه منذ ولادته والتي سترافقهُ إلى لحْدِه . ورقَصَتْ لور وقد أسكَرتها خمرةُ الانتصار المدنَّسَة ، انتصار الرذيلة على الفضيلة . ولكن ...
ولكن كانت الأهوال تنتظرهم ، وكانت الزلازل المُزَلْزلات تتربَّص بهم وهي تَعدُّ عليهم أنفاسهم .
وجُرِّد داهش من جنسيّته قسراً واغتصاباً ، وأُبعد عن البلاد ، وظنّ السفّاح بشارة الخوري ، والمُنافِقة لور أنّهما قد انتهَيا من أمر مُؤَسّس الداهشيّة ، لكنَّ ظنَّهما خاب ورجاءَهما ذاب ، إذ سرعان ما صدَرَت سلسلة من الكُتُبِ السوداء الرهيبة ، طافحةً بجرائم بشارة ومآثمه ، وملأى بأخبار اللوطيّ هنري فرعون ، مُشْبَّعةً بأسرار لور الجنسيّة القَذِرة . وجميع هذه الكُتُب ممهورة بتوقيع ماري حدّاد الداهشيّة .
وماري شقيقة لور ، شقيقتها سابقاً ، أي قبل ارتكاب الجريمة . أماّ الآن فقد أصبحت غريبة عن ماري حدّاد ولا تمتُّ لها بأيّة صلة . وتبعَ الكُتُب السوداء إلقاء القبض على ماري حدّاد ووضعها بالسجن عاماً كاملاً ، كما زُجَّ الشاعر حليم دمّوس في غياهب السجون أيضاً ، دون أن تكون عليه أيّة بيّنة إطلاقاً . ولكنه الظلم المرعب يرتكبه سيّد المجرمين بشارة الخوري سفّاح لبنان الباغية على الحقّ ومهشّم الدستور بارتكابه الإجراميّ الهائل .
وقد ندم هذا الأقنوم الثلاثيّ المجرم ، ندموا على تدخّلهم في مسألة داهِش ندماً عظيماً لم يُجْدِهم نفعاً ، إذ اُفتُضِحَتْ جرائمهم ، وكُشِفَتْ أستار فضيلتهم المزعومة ، فعرف الجميع أَدقَّ أسرارهم النتنة من الكُتُب السوداء التي كانت تُمطر البلاد من أقصاها لأدناها في كلّ يوم ، دون أن تستطيع دوائر التحريّ معرفة الموزّعين أو الطابعين لهذه الدواهي المرعبة .
وراحت ألسنةُ الخلق تُمطرهم بسهامٍ حادَّة ، وتسلقهم مندِّدة بجرائمهم التي تُؤيّدها البراهين والوثائق المطبوعة بالزنكوغراف .
وأخيراً ، طفَحَ الكَيْل ولم يعدْ في قوس الصبر منزع ، والتهبَت الثورة ، ثورة الشعب على المجرم بشارة المرتكب للجرائم المفضوحة .
وبين غمضة عينٍ وانتباهها حُطِّم كرسيّ حكمه على رأسه ، وطُرد من منصبه . وكان ، إذ ذاك ، مجنوناً إذْ سلَّطَ عليه داهِش سيّالاً روحيّاً أفقده عقله ، فأصبح بهلول لبنان وأضحوكته الأبديَّة .
وقد فقد بشارة عقله ، وطلّقَ رشاده ، وأضاع تمييزه بعدما جرَّد بشارة داهِشاً من جنسيّته بشهرٍ واحد . إذ استيقظ صباحاً وهو يرفع عقيرته بالغناء وقد أمسك بجَرْدَل الماء يقرعه ظانَّاً أنَّه الطبل ، فهرعَتْ لور لترى ما الخبر ، وإذا بها ترى قرينها وهو عاري الثياب ، وقد تأبَّط جردل الماء وهو يُردّد نشيد " يا ريتني حصان" لعمر الزعنّي . ثم اعتلى السطل ظانّاً إيّاه فرساً أصيلة ، وراح يسوطها بحذائه يستحثُّها على الإسراع .
وإذْ ذاك انفجرت لور السفّاحة بالبكاء ، وعرفت أنَّ زوجها قد جوزي على اعتدائه على حريّة داهِش .
ولكن سبق السيف العذل
فما فات مات ، وهيهاتِ أن يعود مثلما كان هيهات
وتوارى المجرم بشارة الباغية في منزله بالكسليك ، نادباً أَيَّامه ، نادماً على ما فاته . وكان عقله قد تضعضع ، فبرزَتْ عيناه من محجريهما ، وجحظتا ، ممّا جعل أقرب معارفه يستعيذون بالشيطان عند مشاهدته .
لقد كان منظره مخيفاً جدّاً ، وقد قال أحد أصدقائه المقرّبين مُقْسِماً بالله ، ومُردّداً : إذا تجسَّد الشيطان لما كان منظره أشدّ خوفاً من منظر بشارة الخوري المرعب . وتأكيداً لشدّة انزعاج بشارة الخوري وزوجته وخوفهما ممّا أصابهما بعد الاعتداء على الدكتور داهش ، وسلسلة الرعب والمتاعب التي أحاقتْ بهما سأنشر صورة زنكوغرافيّة عن رسالة لور لأختها ماري حدّاد تطلب فيها الصلح معها لتتخلّص مع قرينها من الأهوال التي انصبَّتْ على رأسيهما انصباب الحُمَم . أنظر رسالة الأفعوانة لور في الصفحة 202 من هذا الكتاب .
وقد ردَّت السيدة ماري حدّاد عليها برسالةٍ رأيتُ أَنْ أنشرها ليعرف كلُّ لبناني في أيّ جحيم كانت تحيا هذه الحيَّة الرقطاء لور السفّاحة ، وقرينة السفّاح الباغية بشارة . لعنه الله .
انظر رسالة الأخت ماري حدّاد إلى لور في الصفحة 206 من هذا الكتاب .
والخلاصة أنَّ بشارة الخوري بعهده البغيض سَخَّر وسائل الدولة الإِذاعيّة بأكملها ضدّ داهِش . فكانت الصحف تنشر سلسلة من الأخبار الكاذبة عن مُؤَسّس الداهشيّة ، والراديو يدأَبُ ، ليل نَهار ، على بثّ السموم حوله ، والمدارس الاكليريكيَّة تُلقّنُ الطلبة والطالبات الصغار أشنع الأكاذيب ، ملفّقةً أحطَّ التُّهَمْ عليه ، لتُبعد تأثيره عنهم ، فداهِش هو الحربةُ التي وجَدَتْ مقتلاً من رجال الدين ، فاضحةً أعمالهم ، مندّدةً بتصرفاتهم ، مهاجمةً أكاذيبهم ، معلنةً رجاساتهم ، مبرهنةً تدجيلاتهم للرأي العامّ .
وقد هالهم الأمر فتكأكأوا عليه ، وتكالبوا ضدّه بجميع وسائل دعايتهم . حتى على منابر الكنائس كانوا يُذيعون أَخباراً ملفّقةً عنه ليُخيفوا الناس . والجماهير تُقاد كالأَغنام ، والدعاية تُؤثّر ...
ولكنَّ سفينة الداهشيّة استمرَّت سائرة بعزمٍ وثبات ، متخطّيةً جميع الحواجز، مُدمّرةً كلّ العوائق ، مزيلةً كلَّ ما يعترض سيرها من عقباتٍ كأداء.
وأخيراً ، انتصر الحقُّ وزَهَقَ الباطل ، إِذْ أعاد الرئيس كميل شمعون جنسيَّة داهِش السليبة .
وكان داهش ملازماً لبنان ، لم يُفارقه على الإِطلاق . ولكنْ لم يكن أحدٌ ما يعلم بهذا السرّ سوى الداهشيين .
وقد أُعيدت جنسيته إليه في عام 1953 . وسارت سفينة الداهشيّة مثلما يجب أن تسير رغماً عن الحاسدين والموتورين .
وقد أَحزنت والدة داهِش الجريمةُ التي أوقعها الباغية بشارة بابنها ، كما أَذْوَتْها حادثة انتحار ماجدا ابنة ماري حدّاد ، إذ انتحرَت احتجاجاً على تجريد داهِش من جنسيَّته وتشريده في أرجاءِ المعمور ، وقصدها أن تُسمع صوتها للرأي العام بواسطة الصحف اللبنانيّة ، ولكنْ لا حياة لمن تنادي . فالصحافة في بيروت ، عوضاً عن اتّباعها صوت الضمير ، ودفاعها عن الظلم الهائل ، راحت تنشر أكذب الحوادث ، وتختلق أحطَّ الأمور ، وتلصقها بالمُعتَدى عليه الدكتور داهش استدراراً لعطف المجرم بشارة .
أَقول هذا والألمُ يمضُّني ، والغضبُ يستفزُّني .
وكان نتيجة هذه التلفيقات ، وتسخير الضمائر ، ما حدث في لبنان منذ أَربعة أَعوام .
وما يزال الحبل على الجرّار ، مثلما يقول المثل .
إذْ تهدَّم اليوم لبنان ، وتيتَّم أبناؤه ، وذُبِحَ رجالهُ ، وترمَّلت نساؤه ، وثكلت أُمّهاتُه ، وتردّم بنيانُه ، وتزلزلت أركانُه ....
وما ذلك إلاّ لأنَّ جميع صحف لبنان لم تنحَزْ منها أية صحيفة لمؤازَرة الحقّ ، ومناصرة المعتدى عليه ، والتنديد بالمجرم .
كما لم يبرز أيُّ وزيرٍ ، أو نائبٍ ، أو محامٍ ، أو صاحب شهامة، ليشجب الظلم الذي أوقعه الوصوليُّ برجلٍ بريء .
هذا ما سبَّبَ دمار لبنان وخرابه ، وذهاب ريحه .
فيا أُمَّ داهش ، أيّتها الجبَّارة التي طواكِ الردى حزناً على ابنكِ ، لقد انتقم الله لكِ من الظالمين ، وأَدّب المدينة التي وقفَتْ مكتوفة الأيدي ، دون أن تنحاز لجانب الحقّ الواضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، بل استمرَّت بسيرها في ركاب المجرم والتصفيق له ، فإذا بالمقنبلات تُزلزل مدنها وتُردّم عامرها .
وما ربُّكَ بظالمٍ لعبيده ، إنّما هم لأنفسهم ظالمون .
أنطون مرعب الداهشيّ
بيروت ، الساعة 4 بعد الظهر
تاريخ 30/1/1979