كلمة أول حزيران للعام 2004
بقلم علي محمد يونس
أيها الأخــــوة الأحبـــــة .....
في مثل هذا اليوم، ومنذ خمس وتسعين عاماً وُلد الهادي الحبيب: إبن السماء البـارّ، وصوت الحقّ الصارخ،
المنقذ الموعود في كلّ الأزمنـة، والشاهد الحقّ على التـاريخ والأمكنة، المعزّي المنتظر لدى الأعراب والحضر، والمخلّص الوحيـد لكلّ البشر ....
صاحب الأقوال المأثــــورة، والكلمات المشهورة، والنبــؤات المذكـورة.
وها قد أزف الوعد، وحان يـــوم السعد، فتجلّى الوجـد، وبرز الصبح، وتفتّق الورد، فتجسد المجد، ودوّى صوت الرعد،
فإذا بالهــادي الموعود، حمل الله الوديع، يحمل آلام البشريـة التي لا تطاق، فيكابد المشقات الهائلة، ويعاني المنغّصات النازلة، ويتملّكه أسىً نفسي شديد الوطء على فؤاده الحسّاس، وذلك لغدر الزمان وعسف الخطوب، وندرة الخلان ووفرة الكروب، ولشدّة الطغيان وقلّة الأعوان وكثرة العيوب، وتنكّر الإخوان، وضعف الإيمان، وقوّة الذنوب، ولتعاظم شرور بني الانسان مع كل ريح هبوب، فضلاً عن غربته الروحّية القاسية في أرض الضغائن والأشجان وتناحر الدروب، فلم يؤمّل إلا بالإله الرحمن، يكفيه شرّ الإذعان، ويقيه غائلة الحروب.
نشد حبيبه الموت علّه ينقذه ممّا يعاني في وحشة الغروب، وحنّ إلـى موطنـه الأصلّي ما وراء العيـان، وأجنحة المجرات، والسدم والثقوب، حيث تزول المتاعب والآلام، وتفنى الأهواء والأوهام، وتتبدّى الغيوب، فيرفل بأثـواب السعادة والسلام، وينعم بأجواء الحبّ والحنـان، في جنّة وارفة عرضها السموات والأرض وضفاف الأكوان، فيها تتحقق الأمانـي والأحلام، ويسود الحقّ والعدل، ويتوفر الأمان.
يقـــول:
" والكرى المعسول، والخفّي المجهول، والأبد الذي لا يعتريه الزوال والأفول، والعفاء والذبول، هو ما تطمح إليه نفسي، ويبغيه قلبي. وتحن إليه جوارحي."
لقد مرّ في عالمنا للحظات، فكانت كلماتـه لنـا نوراً هاديــاً وضّاءً وسط تلك الظلمات، تهدي السفائن الحائرة، وترشد القوافل السائرة، وتزف البشرى إلى قلوب العذارى الساهرة، وعيون الطيور المهاجرة في بيد الصحاري الشاسعة والفيافي الواسعة، تبحث عن الكلأ والماء، في أرض جدبـاء، فلا تلقى غير السراب والهباء.
لقد سعى إلى تقويم إعوجاجاتنا الأخلاقية، فمجّد الفضيلة، وغنّى البطولة، وقدّس الحرّية، وعظّم السماء في كوكب الطين والماء، وعبثاً نشد الحقيقة والسلام، والعدالة والوئام، في عالمٍ فان، حقائقه أضغاث أحلام.
زرع فينا بذور المحبّة والأمل، ونور العلم والعمل، فكان يشحذ الهمم والعزائم، ويوقظ المتثائب والنائم، علّه ينهض بالنفوس الخائرة من حمأة الرذائل والصغائر، ووهدة المطامع والمساخر إلى حياض الروح وملإها العلويّ الطاهر، لكنّ الزرع لم يطلع، والزهر لم يينع، والثوب لم يُرْقع. فمن أين للبشر أن تتغيّر حقيقة سيّالاتهم، وطبيعة نفوسهم وغاياتهم فتتحوّل عن جوهرها الترابيّ، ومعدنها الزريّ، لتسبح في قبّة الفضاء اللانهائـي، وأعماق المستحيل الكوني، فتنقلب إلى معدن الطهر والنقاء، وتكتحل بأشعة السحر والصفاء؟ إلا أن يأتي داعي الموت، فيحرّر تلك النفوس من ربقة قيودها، ويحطّ عنها غبار أسفارها وغلال عقودها، ليفك طلاسم عهودها، فتتعرّى أمام معبودها، لتتحرّى مسار ورودها، وتستعيد ذكرى أمجادها وأدوار وجودها، حيث تعبر الجسر من حال إلى حال، فتتبدّل المقامات والأحوال، إذ يُرفع الجدّ ويوضع الإهمال، ويورث الحقد، ويحرز المثال، وتقوم الموازين القسط، فيقام الحدّ، وتكنه دقائق الأعمال، وإذ ذاك تخطّ النفوس مصائرها بملء اختيارها إما لعزّ وإما إلى زوال، بما يوافي العدل الإلهيّ، ويجدّد الآمــال، فتعمّ البشائـر، أو يزيـد الضلال!
"فما يـزرعه الإنسان، إيـّاه يحصد"، ويكثر التسآل.
و" بالكيـل الذي به تكيلون يُكال لكم"، ويزداد الإشتغال.
فيا إخوتـي:
إني أناديكم .... أقول لكم ... أوصيكم...
لا تقتلوه مرّتين: مرّة بأيدي الآخرين، ومرّة بأيديكم، بفرقتكم وتعاديكم، أو تداعيكم .... لا فرق،
بل ثبّتوا أقدامكم، قوّوا إيمانكم، هاتوا برهانكم، نظّموا صفوفكم، وطّدوا أركانكم، وكونوا "كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً" أو " كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحّمى."
وإذ ذاك تقبضون على الجمر بيمينكم، بأفكاركم ويقينكم، فلا تلين قناتكم، ولا تلتوي أعوادكم، بل تهون أعاديكم....
وذلكم ما أرتجيه لكم، وبه أفتديكم، فتتمّ النعمة عليكم، وتكتمل فرحتكم، وتتحقّق أمانيكم ....