اليوم الأوّل لرحلتي الغريبة
أنا وردة جوريّة سقطت من يد فاتنة كانت تتنسّم رائحتي العطرة ، وهي تقف بجوار خطيبها الشابّ على متن السفينة المبحرة الى أميركا . وفور سقوطي تأوّهت الفتاة وقالت لخطيبها :
انّ سقوط وردتي الجميلة نذير شؤم . فقد حلمت ليل الأمس أنّ السفينة أغرقتها عاصفة عاتية ، وشاهدت نفسي غريقة في اللجج الغضوب ، وأنت تغمرني بذراعيك . وعند يقظتي هالني الأمر ، واضطربت ، وكان الذعر يطوّقني بمخاوفه المرعبة . وعندما أفلتت الوردة من يدي تشاءمت ....واني خائفة ، أيّها الحبيب ، من هذه الرحلة ، فليتنا نستطيع مغادرة السفينة قبل رحيلها .
أجابها خطيبها :
خفّفي عنك يا حبيبتي المفدّاة ، فحلمك انّما هو أضغاث أحلام لا قيمة لها . فالمرء يحلم شتّى الأمور . ولو كلّ انسان فسّر حلمه حسبما يرتئيه لأصبحت الحياة عبئا ثقيلا لا يطاق . ثم ها هم قد رفعوا المرساة ، وابتدأت السفينة بالتحرّك للابحار . فوالحالة هذه لا نستطيع مغادرتها والاّ لنفّذت رغبتك التي أعتبرها مقدّسة .
فاطمئنّي يا أعزّ عليّ من روحي ، وكفاك تشبّثا بأوهام سرابيّة . وبهذه المناسبة أردّد عليك الكلمة العظيمة التي تقول :
ويأتيكم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة .
اذا لا يستطيع أيّ مخلوق بشريّ أن ينجو من شرك الموت اذا حانت ساعة منيّته . وعندما سارت السفينة ، كنت أنا الوردة أنساب بدوري على صفحة البحر مبتعدة عن السفينة التي تقلّ المسافرين وبينهم الخطيبان العاشقان هكتور الشجاع ودوريس الفاتنة .
مشاهد مذهلة
وكان سيري تبعا للأمواج التي كانت تتلاعب بي ، فتارة تقذفني الى الأمام ، وطورا تعود بي الى الوراء ، ومرّة أجد نفسي وقد دفعت لليمين ، وأخرى لليسار .
واستمرّ سيري ساعات طويلة لم أشاهد فيها سوى الماء والسماء ...
وابتدأت الشمس تجنح للغروب ، وشيئا فشيئا راح الظلام يبسط سرادقه على المحيط العظيم ...وما لبث أن اجتاح بجيوشه اللجبة الآفاق ، فاذا بالدجنّة تسيطر سيطرة تامّة ، فالظلمة شاملة ، ولا يسمع سوى صوت تلاطم الأمواج الجبّارة في سكينة الليل المهيبة . كانت الأمواج تحملني فاذاني في قمّتها لتعود فتهبط بي على صفحة البحر العظيم الامتداد واللانهائيّ المسافات .
وكانت النجوم المنشورة في قبّة الفضاء تتوهّج ببريقها المومض ، فسحرت من تألّقها العجيب ، ورحت أحدّق بهذه الكواكب النيّرة وأنا أمجّد خالقها ومكوّنها ومبدعها .
وكان النسيم العليل يلطّف الجوّ – فالفصل فصل ربيع – وكان يدغدغني بلطف سررت له . وفجأة مرّت بقربي سمكة مستطيلة الجسم ، وبجوارها سمكة أخرى أضخم جسما منها ، ولكنهما من نوع واحد ، فعرفت أنهما ذكر وأنثى . اذا هما حبيبان .
واقتربت الانثى وجذبتني بفمها ، فغصت في الماء ، فحاولت التهامي ، ولكنها فجأة تركتني اذ كان في ساقي شوكة غرزت بها ، فآثرت الفرار وحبيبها وراءها ، فشكرت الله على نجاتي من مصير سيّء .
وداومت على السير في هذا الليل البهيم ، ولا شيء سوى الماء والسماء .
ثم مرّ سرب من الأسماك ....فسمعت سمكة تحادث أخرى ، قائلة لها :
لقد خنت عهدي ، اذ شاهدتك ، اليوم ، تتودّدين لسواي ، فاستعدّي للقصاص الذي سأنزله بك . وهجم عليها ، وكان انقضاضه وحشيّا ، فحاولت الهروب ، ولكنه تغلّب عليها ، وظلّ يرطمها بجسمه بقوّة وعنف شديدين ، فتهاوت ثم لفظت أنفاسها ، واذا بالأسماك تجتمع عليها وتلتهمها . وكان استغرابي شديدا عندما شاهدت قاتلها يشترك مع سرب الأسماك بالتهامها . فقلت في نفسي : يا للعجب ! انّ معشر الأسماك يفعلون ما يفعله البشر ، وكنت أجهل هذا الأمر جهلا تامّا .
ومضيت بسيري في متاهة الاوقيانوس العظيم ، ثم شعرت بنعاس ثقيل يستولي عليّ ، فاستسلمت لسلطانه القاهر .
اليوم الثاني لرحلتي العجيبة
عندما استيقظت كانت الشمس تبسط سلطانها على البحر الممتدّ المسافات . ولم أشاهد أي طائر في السماء ، ولم أر أيّة رقعة من الأرض ، وعلى امتداد البصر كان البحر هو ما أراه ، هو وحده دون سواه !
واستمرّ سيري لساعات وساعات ، ولم يرافق وحدتي سوى الماء والسماء .
وكنت في بعض الأحيان ، أشاهد شتّى الأنواع من الأسماك المختلفة الأحجام والأشكال ، وكان كبيرها يلتهم صغيرها .
ومرّت بجواري مجموعة هائلة جدّا من الأسماك تقدّر بعشرات الألوف ، وكانت تسبح بسرعة كبيرة دهشت لها .
وفجأة ظهر حوت هائل ، وكان يطاردها ، فعرفت سبب اسراعها في سيرها ، اذ كانت مذعورة لمطاردتها من الحوت الجبّار .
وفغر فاه المرعب والتهم المجموعة العظيمة من هذه الأسماك الهاربة ، مبتلعا معها كميّة هائلة من الماء . ثم رأيت نافورة عملاقة من الماء تقذف من فتحتين برأس هذا الحوت ، واذا بالماء يتصاعد بقوّة وعنف نحو العلاء ، وكأنه شلاّل عظيم التدفّق .
لقد أبقى الأسماك بجوفه ، وقذف بالماء الذي هو ليس بحاجة اليه . وقد هالتني ضخامته المرعبة .
وما لبثت أن شاهدت حوتا آخر قد ظهر بجوار الحوت الجبّار ، ولكنه ليس بضخامته .
فعرفت أنها أنثاه .
وسمعت الحوت يحدّثها ، قائلا لها :
أما زلت تتبعين أثري ؟! فأنّى أتّجهت أجدك بجواري .
هو ما تقول . فلولا حبّي ايّاك لما لاحقتك . فأنت في مقتبل العمر وعنفوان قواك . فما يدريني أنك ستغازل سواي ، وهذا يدعني بحالة جنون تامّ .
ثوبي الى رشدك ، وتأكّدي بأنني لا أستبدلك بأخرى حتى لو أمرني ( يوسيدون ) بهذا الشأن فاطمئنّي .
وابتدأت الظلمة تخيّم على الأرجاء شيئا فشيئا ، وأنا كنت أسير على غير هدى وتبعا لرغبة المياه المتحرّكة ، ثم زحف الليل بجيوشه الجرّارة ، فاذا بجندس الظلمات يغمر المحيط الهائل . وفجأة سطع نور باهر في السماء أنار البحر وكأنّ الشمس قد أشرقت !....
واقترب النور المبدّد للظلمات ، ثم جسم متحرّك جعل يهبط من الفضاء ، ثم هوى بسرعة وخفّة عجيبين فاذا هو كالصحن باستدارته التامّة . وكان قطره حوالي 40 مترا . وسمع لمحرّكاته دويّ خفيف ، وكان الدويّ موسيقيّا . وكانت النوافذ تملأ استدارته . وقد شاهدت من خلال هذه النوافذ رجالا بطول القلم الرصاصي وهم زرق اللون ، وكانوا في حركة ذهاب واياب متواصلين .
وفجأة انتشر نور برتقالي غطّى مساحة من البحر ، واذا بي أشاهد أفواجا أفواجا من مختلف أنواع الأسماك تملأ تلك المساحة المغطّاة بالنور البرتقالي . وامتدّ وعاء معدنيّ استطالته ليست أقلّ من ثلاثين مترا ، وهو مستدير كالبرميل . وكانت الأسماك ترفع الى هذا الوعاء بقوّة خفيّة قادرة وبيد غير منظورة ، وتزحف في هذا الوعاء المعدني داخلة الى جوف الصحن الجاثم على الماء حتى تبلغ داخل السفينة .
واقتربت نحو هذا الصحن العجيب حتى ارتطمت بحافته ، فاذا بي أشاهد نساء بحجم القلم لونهنّ أزرق ، تتخلّل زرقتهنّ خطوط حمراء , وكنّ يتحدثنّ معا ، فأرهفت السمع ، واذا باحداهنّ تقول :
انّ بحر أبناء الأرض لا يشابه بحرنا ، فبامكان أيّ مخلوق أن يسير على صفحة بحرنا دون أن يغرق ، أمّا بحرهم فلا يستطيع أحد ما السير عليه اذ انّ الهلاك يكون من نصيبه .
وقد أمرنا أمبراطور كوكبنا المطاع الكلمة ( بورباليون ) أن نحضر له كميّة من الأسماك الأرضيّة ليرى اذا كانت تستطيع الحياة في كوكبنا الموغل في القصاء بمجاهل الفضاء .
وأجابتها رفيقتها :
لقد مكثت رحلتنا ثلاثة أعوام نوريّة حتى بلغنا كوكب الأرض ، ونحتاج الى ثلاثة أعوام لنعود اليه ثانية ، ولكن يجب علينا ، أولا ، أن نجوب كلاّ من اليابان وأمريكا والصين والأفغان ، فضلا عن ألمانيا وأسبانيا وباريس ، لنقدّم تقريرنا لأمبراطورنا العظيم عن أحوال سكّان الأرض وميولهم ، وكيفيّة بناء منازلهم ، وأنواع المواصلات التي استطاعوا أن يتوصّلوا لاختراعها ، وما هي سرعتها القصوى . كذلك علينا تقديم شرح واف عن حياة المرأة والرجل ، والعلوم التي أدركها البشر ، وكم من الأعوام تمتدّ حياة سكّان كوكب الأرض . فمعلوماتنا التي حصلنا عليها ودوّنتها تقاريرنا تفيد أنّ حياة أبناء الأرض مهما امتدّت فلا تزيد عن مئة عام ، وهذا العمر لا يبلغه الاّ النادرون من المعمّرين .
أمّا الحياة في كوكبنا فتمتدّ لألف عام ، وذلك بنسبة النظام والأحوال الطبيعيّة الموجودة فيه .
وأكملت قائلة :
وأنت يا شقيقتي تعرفين أنّ مركبنا الكونيّ اذا أصيب بضرر فادح لأيّ سبب من الأسباب ، فان قائده يسلّط عليه ( الماركريدام ) فيذوب ويتلاشى فورا هو ومن فيه ، دون أن يترك أيّ أثر يؤكّد وجوده .
فمن هذه الناحية نحن بمأمن من اكتشاف أمرنا حتى اذا شاهدنا أيّ مخلوق بشريّ – هذا اذا أوقفنا مركبنا على رقعة من الأرض – فان الصحن يتبخّر بمجرّد مشاهدته لنا ، ولا يعود ليرى ، اذ انّ القائد أو مرافقيه أو أيّ ملاّح يسلّط عليه أشعّة ( فوبوماران ) ، فيختفي عن العيان ، فيظنّه الناظر انه ارتقى بسرعة خارقة نحو الفضاء ، والحقيقة هي ما ذكرت .
ثم لم نرى أيّ اختراع خطير في الكرة الأرضيّة كاختراعاتنا المذهلة ، فسرعة مركبتنا هي بسرعة النور أي 300 ألف كيلومتر في الثانية ، في حين أنّ أعظم سرعة بلغها اختراع البشر هو 40 ألف كيلومتر بالساعة ، ولبضع دقائق فقط ؛ وهذه السرعة تسير بها المركبة الفضائيّة التي صعد بها روّاد أمريكيّون الى القمر ، وتتمّ هذه السرعة عند عودة الروّاد للأرض بعد مغادرتهم القمر ، وحينما يريدون الدخول في جوّ الأرض من الفتحة الفضائيّة التي يلجون منها الى الكوكب الأرضي ، وان اخطأوها بفقدون الطريق ويتيهون في الفضاء الى الأبد .
والآن سنذهب الى هيروشيما وناجازاكي لنقدّم تقريرا عن تأثير مفعول القنبلة النووية التي أفنت أكثر من 100 ألف نسمة عام 1945 .
وسيأتي يوم نظهر فيه أنفسنا لأبناء الأرض ، ويومذاك سيأمرنا أمبراطورنا امّا باستعمار أرضهم ، أو بتدميرها على رؤوسهم ، فهم أشرار وفجّار لا يصطلى لفسقهم بنار .
وأنا ما زلت أذكر أنّ جدّي قد أعلمني بحادث تدمير سادوم وعامورة بعدما بلغت أنباء شرورهم جدّ امبراطورنا – وكان أمبراطور أيضا – فأرسل ينذرهم بأن يقلعوا عن رذائلهم أو يبيدهم ، فلم يأبهوا .
حينذاك أرسل رسولين بمركبة نورية وأفناهم . وقد ظنّ لوط الصالح أنّهما ملاكان ، وما كانا الاّ رسولي الأمبراطور ، وهما من سلالة العمالقة . فالعمالقة في كوكبنا يتساوون بالطول مع أبناء كوكب الأرض .
وقد شاهدت أنا الوردة أكثر من 15 رجلا كوكبيّا وقد جلسوا على مقاعد صغيرة تناسب أجسامهم ، وكان أمامهم أزرار عديدة ضغطوا عليها ، واذا بالصحن يحلّق بسرعة مذهلة نحو الأعالي ، ثم تغيّبه الأبعاد السحيقة . فعرفت بانهم ذاهبون الى هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين .
اليوم الثالث لرحلتي المدهشة
كانت يقظتي في ساعة متأخّرة ، اذ طال سهري ليل الأمس بسبب الصحن الطائر . وفور يقظتي أرسلت بصري نحو الأبعاد علّني أرى شجرة أو طائر ، فما عدت بطائل ، اذ كنت ما أزال محاطة بالماء والسماء .
وظللت سائرة بتؤدة ، وكعادتي اليومية ، كنت أشاهد أرتالا من مختلف أنواع الأسماك والحيوانات البحريّة ، ولا شيء غير ذلك .
ورحت أصلّي لخالقي ، فقلت :
أي الهي خالقي وخالق البرايا ،
أنا تائه في محيط لجب لا نهائيّ ،
أسير فيه الى غير وجهة معلومة .
فبعد أن كنت في غابة فتّانة ،
بجوار مجموعة مبدعة من الورود المنمّقة ،
سقطت من يد الحسناء في البحر ،
واذاني وحيدة فريدة ،
لا أنيس لي ولا جليس
لأسامره ويسامرني ،
مخفّفا عنّي أعباء هذه الحياة الدنيا .
فيا وجودي من العدم ،
أعدني ثانية الى العدم ،
أو فدعني أبلغ شاطىء الأمان ،
واحرسني بعين عنايتك التي لا تنام .
واستمرّ سيري الطويل في محيط نهايته مجهولة المكان ....
وتتالت الساعات وأبيدت ....
ثم احتاطني ظلام هائل ، وباحتلاله ابتدأت بوادر عاصفة عظمى ، ثم تكاثرت الغيوم ، وتكاثفت ، وأطلق عنان الريح ، فاذاها مجنونة وجنونها مخيف .
ثم اجتاحت المحيط عاصفة مدمّرة ضربت صفحة البحر ، فاذا بأمواجه هائلة الرعب ! كانت الأمواج كالجبال الشامخة بجبروت قاصف . ثم ابتدأت الأمطار تنصبّ انصبابا مروّعا ، وعلت أصوات العاصفة فزأرت وكأنها زلزال مدمّر .
ثم أبرقت السماوات برقا متواصلا ...وكان الرعد يدوّي ويزمجر برهبوت تنخلع لدويّه قلوب الجبابرة !
وانقضّت الصواعق تقصف جبابرة الأمواج ، فيعلو أنينها ، ويتعالى نواحها ، فتذعر الحيتان ، وتلتجىء الى الأعماق السحيقة من هول غضب الطبيعة الذي لا يبقى ولا يذر .
وفي هذا الموقف الخطير المخيف بدت لعيني أنوار خافتة اقتربت بصعوبة كبرى . فاذاها سفينة ضخمة تتراقص من عنف أهوال هذه الليلة الشيطانيّة !
وكانت نواقيس هذه السفينة تقرع قرعا متواصلا ، أملة أن تمرّ باخرة ما تسرع لمساعدتها ونقل ركّابها المنخلعي القلوب من رهبوت هذه العاصفة المولولة بصرامة عظمى .
ويا لهول ما حدث ! اذ انقضّت صاعقة جبّارة على السفينة ففكّكت دفّاتها وكأنّها لعبة أطفال ! وكان صراخ الهول المزلزل يعلو على صوت العاصفة ، ويطغى على الأمطار المتساقطة بغزارة فائقة ، ويستبدّ بزمجرة الصواعق المتواصلة . انه صوت ركّاب السفينة التعيسة وهم يستغيثون علّهم يغاثون .
ثم ....ثم ابتلعتهم الأمواج الثائرة فاذا هم بأعماق المحيط الذي لا يشبع نهمه شيء .
اليوم الرابع لرحلتي المذهلة
لم استطع النوم اطلاقا , فقد هزتني فاجعة السفينة الغارقة وموت ركّابها عن بكرة ابيهم ! لقد طواهم الردى , وعصفت بهم الأقدار , فاذا هم في أعماق المحيط طعمة رخيصة للأسماك . فيا لمصيرهم التاعس !
وكانت عشرات الجثث طافية , ومنها فتيات بعمر الورود , وشبّان بشرخ الشباب , جميعهم مغمضو العيون , وقد سكنت حركتهم بعدما هدأت العصفة , وانقطعت الأمطار عن الانسكاب , واختفى وميض البروق , وأصيبت الصواعق بالبكم , وهدأت ثورة الأمواج الطاغية .
هدأ غضب الطبيعة بعد أن سقت هؤلاء التعساء كأس الحمام . ويظهر أنها كانت تقصدهم بدليل سكون غضبها , بعد أن فتكت بهم , واستلّت أرواحهم , وأبادت وجودهم .
وشاهدت سربا من حوريّات البحر الفاتنات , وهن يسبحن برشاقة , واقتربن حيث توجد جثث الأموات الطافية .
وجعلت كلّ حورية منهنّ تنظر الى الشبان , ثم تلمي بأصابعها أجساد الراقدين رقاد الأبد .
واقتربت أجمل عروس بحر , وأبهاهن وجها , وتمعّنت بوجه شاب لا يعدو العشرين ربيعا , وكان يطوّق بذراعيه جسم فتاة بعمره . ويظهر أنه كان خطيبها , لأن المحبس كان ببنصره . وجعلت ترثيه فقالت :
أيّها الشّاب الجميل ,
لقد فتنني جمالك ,
وأسرني شبابك .
لقد اقتنصك الموت فجأة ,
فإذاك ساكن لا حراك بك ,
بعدما كنت نشيطا ممتلئا بالحياة ,
وكانت الآمال تعمر صدرك ,
اذ كان قلبك يخفق بحبّ فتاتك الجميلة .
لقد تعاهدتما أن تموتا معا ,
وقد خاصرتها قبل أن تفارق روحك جسدك ,
وهذه المخاصرة تبرهن تفانيك بحبّ حبيبتك المسجّاة .
فواحرّ قلبي على شاب يذوي ,
والحسن يغتاله الموت الذي لا يرحم !
جمع الله روحيكما معا بفردوسه الأبديّ المفاتن والبهجات .
وذرفت عروس الماء دموعا حرّى على هذا لاشاب ورفقائه ورفيقاته , وشاركتها حوريّات البحر في حزنها الكبير ولوعتها على الكارثة المرعبة .
وما لبثت أن شاهدتني , فأسرعت والتقطتني , وغرستني بشعرها المستطيل . ثم أمسكت بيديها الغضّتين الشابّ وخطيبته , وقالت للحوريّات :
سأهبط بهما الى قصري المرجانيّ وأضعهما في حفرة مرجانيّة ,
مكسوّة بأعشاب نديّة وأزهار فاتنة بحريّة ,
فما يدريني أنهما سيتقمصان يوما لحوريّة بحر
وحبيبها المماثل كذلك بتقمّصه القادم !
وفي أعماق البحر , هناك في قصر مليكة الحواري الفاتنات ,
ألحد الخطيبان , ثم بسطت الحوريّة يدها وانتزعتني من شعرها الجميل , وثبّتتني بشعر دوريس .
التي أغمض الموت عينيها الفردوسيتين . وللحال ، غمرني حزن عظيم هزّ كياني هزّا عنيفا ،
فاذاني وقد استحلت لوردة ذابلة فجافّة .
لقد جفّت أوراقي أسى ولوعة على دوريس ،
هذه الغادة الفاتنة الحسن الرائعة المفاتن ،
دوريس التي طواها الموت وغيّبها الردى ،
لقد تنسّمت أريجي ، وتنشّقت عبقي العاطر ،
عندما كانت تقف بجوار خطيبها على ظهر السفينة ،
وكنت في ابّان ازدهاري وعنفوان ربيعي .
وها اني أعتلي قمّة رأسها ، الآن ، ثانية ،
بعدما انطوى عهدي وذبلت أوراقي ،
وجفّت عروقي ، وتوارت أيّام ربيعي ،
واحتضنني الموت الذي لا يرحم ،
مثلما احتضن دوريس الغادة اللعوب
المسجّاة بجوار خطيبها الشابّ الراحل ،
وهي راقدة رقدة الموت الأبديّ .
بيروت الساعة 9 وثلث
من ليل 21/2/1979 .