متحف
من أقاصيص زينة حداد
ترجمة سمير الحداد
هناك في الأفق الخفيّ عن انظار أهل أرضنا يتألق كوكب غاية في الكبر حتى أن حياة المرء ينبغي أن تدوم بلايين السنين لكي تتمكن من زيارة جميع معالمه.
بلدٌ ساحر لا اعتبار للوقت عليه ولا يشعر المرءُ بمرور سنوات عمره. وما أن يُعرب الزائر عن رغبته في معاينة كلّ الأشياء الجميلة على هذا الكوكب، حتى تتحقَّق رغبته في غمضة عين.
اسم هذا الكوكب "متحف" مكتوبٌ بحروفٍ من نار وضياء، تخطط دروبه وممرّاته جنائن مزهرة زاهية، وتتعانق فيه أزهار باسمة تتشارك فرح الحياة وهي تتزييَ بالألوان حسب إراداتها، وإلى كل ذلك، فهي لها وجوه ملائكة صغار تحيط بها هالاتٌ من البتلات الناعمة الدقيقة.
أمّا الأشجار فهي باسقة تتهادى وتترنَّح في أوقيانوس من الأنوار، وأوراقها الوارفة الكثيفة تتميز بشفافية تحاكي رقّة المياه. تربة هذا الكوكب تتكون من جواهر وأحجار ثمينة. والشموس العديدة ذات الألوان الجمّة والتي الكثير منها غير معروف لدينا تتألق وتجمع فرادة كل منها وتضمّ النعومة في تلاوينها حتى تحاكي في ذلك قوس قزح يكون امتداده على مدى الكوكب.
شموس هذا الكوكب لها مهمّة تؤديها، فكل واحدة منها تمثل شخصيّة استأهلت أن تُرفع إلى قمة المجد في هذا الفلك حتى يضيء محيطه من تألق هذه الشلالات المُبهرة ويصبح نجمًا من نتاج الفنّ الإلهيّ الكليّ السمو. إنهم فنانون كاملو الأوصاف وينعمون بموهبة إبداع كل ما هو جميل ورائع في ما يعود لهم من المطارح، وهم يشكلّون على هواهم الأعمال الفنية البديعة، فالله وبكامل قدرته يتناهى ليكون الجمال الأبدي الخالد. فبالنسبة له الفن هو التقدمة الأكثر جمالاً.
هؤلاء النحاتون والرسامون يتوقون لأن يتخطّوا ذواتهم في ما يبدعونه من أعمال. أمّا وقد أصبحوا هم نجومًا تنسكب شعاعاتها المتعدّدة الألوان في دفقات من الضياء. هذه الشعاعات عينها سيختار الرسام منها ريشته يرسم بها ويلوّن لوحاته، ويأخذ منها النحّاتون أزاميلهم. هؤلاء الفنانون يجولون في فضاء لا حدود له، يجولون فيه كأرباب البيت! إنهم عبقريو الفنون. ذكاؤهم يخلق ويجسّد الموضوعات المتغايرة والأكثر جمالاً، سواء كان ذلك رسمًا، نحتًا، عمارة أو توشية.
في ذلك المكان الشاسع توجد فنون مجهولة من قبلنا، فهناك من ينحت النار أو الضوء ثم يجعل الحياة تدبّ فيها! كثيرة هي الأمور التي تُمارس في ذلك العالم مما ليس بمقدورنا القيام به. هذه التحف والآيات الرائعة تصبح أموارًا خالد.
لقد تسنّى لي ذات يوم أن أشاهد احدى ربّات الوحي تنحتُ الغيوم، فقد حوّلت بعضها أشخاصًا وحيوانات وأزهاراً. لقد أبدع هؤلاء الفنانون فردوسًا شديد الجمال لا طاقة للغتنا على الأتيان بأوصاف له.
أوراق الأشجار والنباتات في هذا المكان الساحر ما هي إلاّ لوحاتٍ حقيقيةٍ وكل ورقة مُزيّنة بالرسوم. بعض الأشجار خُصّصت للوحات النصفية، أخرى للمناظر الطبيعية، وأخرى في النهاية تسجل للخلود الأحداث التاريخية الكبرى في العوالم. ويمكننا أن نجزم. بأن شجرة واحدة فقط هي متحف وهو بالتأكيد أكبر من متاحف الأرض مُجتمعة. وجمال الفنون في السماء البعيدة يفوق قدرتنا على التخيّل ولا مجال لمقارنتها بفنوننا.
وتغوص ربّات الوحي أحيانًا في البحيرات وتعكس أنوارها المُختلفة الألوان نحو السماوات وتقوم بنحتها بفضل أشعتها السحريّة. قطرات الماء العملاقة تشكل تماثيلاً، وتبرز عند ذلك قارّة مائيّة ساحرة تتحوّل التموّجات إلى اكسيرٍ للعيون، وتنتشي السابحات أمام الشلاّلات التي تجري وتسيل جاعلة بعض الأفلاك تدور مُحدّثةً عن مجد الخلود.
هل من المُحتمل أن يكون رسّامونا ونحّاتونا أمثالُ براكسيتيل، مايكل انجلو ورافايل قد عاشوا في زمنٍ ماضٍ بعيد على ذلك الكوكب حتى تمكّنوا من تقديم لمحة مُوجزة عن الفنون التي تنعّموا بها هناك؟!
هل نحصل على الأجوبة والدلائل؟ ربّما في يوم من الأيام.