الروح والسيّالات
(الحلقة 61 ، مجلّة" الدبّور "، 20 حزيران 1949)
الروح والجسد في عراك دائم .
هذا ما علمناه من الدكتور داهش في جلساته الروحيّة .
وكانت الروح القدسيّة التي كانت تحتلّه في تلك الأثناء تأتي وتكشف لنا النقاب عن أسرار هذا الوجود .
وقد فهمنا أنّ في كلّ دين من أديان الأرض قبسا من الحقائق الالهيّة ، وأنّ هذه الأديان كالأجناس والألوان البشريّة متّصلة ببعضها بعضا ، متمّمة لبعضها بعضا .
فمن الدين الأوّل البدائي الىالأديان السامية حلقة من التعاليم التي تزداد رقيّا وروحانيّة كلّما ازدادت البشريّة أو كلّما ازدادت فئة منها رقيّا واستعدادا لتقبّل الحقائق الخالدة .مثلا:
انّ رجل الغابات لا يمكنه – بالنسبة لتطوره الروحيّ – أن يتقبّل تعاليم المسيح ، له المجد . فرجل الغابات الخارج من الحيوانيّة هو بميوله وغرائزه – وهذه كلّها سيّالات روحيّة مسؤولة – قريب كلّ القرب من الأرض والمادّة ، بعيد كلّ البعد عن السماء والروح .
ورجل الغابات هذا قد تناسل ، فاذا بسيّالاته تنتشر في أجسام جديدة . وتتبع هذه السيّالات تطوّرات العصور والدهور . ويأتي الأنبياء والمرسلون ويشيّدون الأديان بموجب خطّة مرسومة منذ الأزل من العناية الالهيّة الضابطة لكلّ شيء . فرجل الغابات هذا ، أو من تناسل منه – وهو سيّال منه – ينال نصيبا من التفهّم والرقيّ الروحيّ بصورة تدريجيّة .
الروح البشريّة
وقد علمنا أمرا مهمّا جدّا ، وهو أنّ الروح لا تتمركز في الجسم ، بل هي في مكانها العلويّ. ومن ذلك المركز تسيّر الروح الجسد أو الأجساد المتعلّقة بها .
أمّا في هذا الجسد فلا يوجد الاّ نفس للحياة وسيّالات مختلفة نشعر بها في ميولنا . فالبخل سيّال درّاك مسؤول ؛ وهكذا الكرم .والظلم سيّال مسؤول ؛ وهكذا العدل ؛ والكسل والنساط ، والبغض والحبّ ، والشراهة والاعتدال والطمع والقناعة ، وهكذا قل عن بقيّة النزعات والنزوات التي يشعر بها كلّ انسان ....
والحرب مشتعلة بين الحسن والقبيح ، أي بين الخيّر والشرّير . ومصير الروح متعلّق بنتيجة معركة سيّالاتها الأرضيّة . فامّا أن تتغلّب السيّالات الطيّبة على السيّالات الشرّيرة ، فترتقي الروح وترتفع في سلّم السماوات . وامّا أن تتغلّب السيّالات الشرّيرة على السيّالات الطيّية ، فتتدنّى الروح وتهبط الى الدركات السفليّة .
وعلمنا أيضا أنّ هذه الأرض قديمة جدّا يعود تاريخ خليقتها الى 76 مليون من الأعوام . وقد مرّ عليها 760 دورا من الأدوار التجديديّة ، ونحن الآن في دور نوح ، أي دور الطوفان .
وكانت المخلوقات في العصور الأولى أقلّ رقيّا ممّا هي عليه الآن ، أي انّ نزعاتها الشرّيرة كانت هي المتغلّبة على النزعات الطيّبة تغلّبا تامّا . وهذا الوضع يتجلّى في أشكالها الجسديّة اذ كانت تلك الأجساد قبيحة المنظر، مرعبة الهيئات ، تحيا طويلا على الأرض . وكانت في حرب دائمة ، كالديناسور والأكتيوزور والجبابرة والماموث الخ...
وعل مرّ العهود وتوالي الأجيال ، وبعد الآلام والمحن التي مرّت بها الأرض ومن فيها ، ارتقت تلك السيّالات نوعا ، فكان من نتيجتها أن ارتقت الأشكال الجسديّة التي تأخذها هذه السيّالات في عصرنا الحاليّ. ونحن في تقدّم دائم بفضل التلقيح السماويّ الذي يأتينا بصورة مستديمة من السماء ، والمتجلّي بالأنبياء والمصلحين والهداة والعلماء والحكماء الذين يأتون الى الأرض في كلّ أمّة من الأمم وفي كلّ شعب من الشعوب وفي كلّ دور من أدوار التاريخ الأرضيّ ، الى أن يحلّ ملكوت الله المتنبأ عنه والذي سيتمّ بعد انتصار الخير الساحق على الشرّ الباطل .
أمّا نحن ، معشر البشر ، فعمّال في هذا العراك الغير المنظور . ومن نتيجة أعمالنا ، امّا أن يتأخر مجيء ذاك العهد الروحيّ العادل ، وامّا أن يتقدّم أجله .
والقضيّةمهمّة جدّا بالنسبة الى كلّ فرد منّا، اذ لا يمكننا التملّص من نتائج الأحوال العامّة التي يخلقها في المجتمع انتصار الخير أو انتصارالشرّ. هذه هي مسؤوليّتنا الجماعيّة .
أمّا مسؤوليّتنا الفرديّة ، فهي تامّة ثابتة بموجب قوانين غير منظورة نعطي عنها شرحا قليلا فنقول :
لكلّ روح سيّالات . ومن هذه السيّالات من ارتقى الى السماء وتتجلّى آثاره فينا بالنزعات الطيّبة .
ومن هذه السيّالات أيضا من هو باق على الأرض ، وتتجلّى آثاره بنزعاتنا المادّيّة . ومن هذه السيّالات من تدنّى وعصى فاستحقّ العقاب والجحيم ، وتجلّى آثاره فينا بالنزعات الشرّيرة .
وكلّ انسان يشعر بهذه النزعات الثلاث : نزعات طيّبة ، ونزعات مادّيّة تسمّره في الأرض ، ونزعات شرّيرة تدفع به الى ارتكاب الشرور .
أمّا جسدنا فهو المستودع وآلة التجربة التي تأتي اليها هذه السيّالات لتتجرّب وتمتحن . وظروف الحياة المختلفة التي نمرّ فيها هي التي تخلق ذاك الامتحان .
فاذا انتصرت سيّالات الخير على النزعات الشرّيرة في الانسان ، انسحقت تلك السيّالات الشرّيرة ، ثمّ تهذّبت وارتقت الى السماء لتتّصل بأخواتها . والعكس بالعكس .
وهذا يعطيك فكرة عن أسباب تنوّع الناس في نزعاتهم وميولهم . فمنهم من تسيطر فيهم الميول الروحيّة كغاندي مثلا أو جبران الخ ... وهذا ناتج عن انتصار السيّالات الصالحة فيهم على تلك الميول الجسديّة والميول الشرّيرة في محنتهم الأرضيّة ، فأصبحت معظم سيّالاتهم أو كلّيّتها صالحة للسماء .
ومن الناس من تسيطر فيهم الرغبات الأرضيّة والسيّالات الشرّيرة على السيّالات الصالحة ، فيتجلّى ذلك في اتّجاه حياتهم وأعمالهم وأفكارهم ، اذ كلّها تتّجه نحو الأرض أو الشرّ . وكلّما ازداد في الانسان عدد سيّالاته الصالحة ، أصبح ميّالا للخير أكثر فأكثر . وكلّما ازداد فيه عدد السيّالات الشرّيرة ، أصبح ميّالا للشرّ أكثر فأكثر . وهذا هو سبب تنوّع الناس نزعاتهم .
وعندما تنطلق هذه السيّالات من الجسم بواسطة الموت ، ترى في لحظة واحدة نتيجة تصرّفها في المدّة التي أعطيت لها كي تتجرّب على الأرض . فامّا صعود وهناء ، وامّا هبوط وشقاء .