أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

 

اليوم الأوّل لرحلتي الغريبة

أنا وردة جوريّة سقطت من يد فاتنة كانت تتنسّم رائحتي العطرة ، وهي تقف بجوار خطيبها الشابّ على متن السفينة المبحرة الى أميركا . وفور سقوطي تأوّهت الفتاة وقالت لخطيبها :

انّ سقوط وردتي الجميلة نذير شؤم . فقد حلمت ليل الأمس أنّ السفينة أغرقتها عاصفة عاتية ، وشاهدت نفسي غريقة في اللجج الغضوب ، وأنت تغمرني بذراعيك . وعند يقظتي هالني الأمر ، واضطربت ، وكان الذعر يطوّقني بمخاوفه المرعبة . وعندما أفلتت الوردة من يدي تشاءمت ....واني خائفة ، أيّها الحبيب ، من هذه الرحلة ، فليتنا نستطيع مغادرة السفينة قبل رحيلها .

أجابها خطيبها :

خفّفي عنك يا حبيبتي المفدّاة ، فحلمك انّما هو أضغاث أحلام لا قيمة لها . فالمرء يحلم شتّى الأمور . ولو كلّ انسان فسّر حلمه حسبما يرتئيه لأصبحت الحياة عبئا ثقيلا لا يطاق . ثم ها هم قد رفعوا المرساة ، وابتدأت السفينة بالتحرّك للابحار . فوالحالة هذه لا نستطيع مغادرتها والاّ لنفّذت رغبتك التي أعتبرها مقدّسة .

فاطمئنّي يا أعزّ عليّ من روحي ، وكفاك تشبّثا بأوهام سرابيّة . وبهذه المناسبة أردّد عليك الكلمة العظيمة التي تقول :

ويأتيكم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة .

اذا لا يستطيع أيّ مخلوق بشريّ أن ينجو من شرك الموت اذا حانت ساعة منيّته . وعندما سارت السفينة ، كنت أنا الوردة أنساب بدوري على صفحة البحر مبتعدة عن السفينة التي تقلّ المسافرين وبينهم الخطيبان العاشقان هكتور الشجاع ودوريس الفاتنة .

مشاهد مذهلة

وكان سيري تبعا للأمواج التي كانت تتلاعب بي ، فتارة تقذفني الى الأمام ، وطورا تعود بي الى الوراء ، ومرّة أجد نفسي وقد دفعت لليمين ، وأخرى لليسار .

واستمرّ سيري ساعات طويلة لم أشاهد فيها سوى الماء والسماء ...

وابتدأت الشمس تجنح للغروب ، وشيئا فشيئا راح الظلام يبسط سرادقه على المحيط العظيم ...وما لبث أن اجتاح بجيوشه اللجبة الآفاق ، فاذا بالدجنّة تسيطر سيطرة تامّة ، فالظلمة شاملة ، ولا يسمع سوى صوت تلاطم الأمواج الجبّارة في سكينة الليل المهيبة . كانت الأمواج تحملني فاذاني في قمّتها لتعود فتهبط بي على صفحة البحر العظيم الامتداد واللانهائيّ المسافات .

وكانت النجوم المنشورة في قبّة الفضاء تتوهّج ببريقها المومض ، فسحرت من تألّقها العجيب ، ورحت أحدّق بهذه الكواكب النيّرة وأنا أمجّد خالقها ومكوّنها ومبدعها .

وكان النسيم العليل يلطّف الجوّ – فالفصل فصل ربيع – وكان يدغدغني بلطف سررت له . وفجأة مرّت بقربي سمكة مستطيلة الجسم ، وبجوارها سمكة أخرى أضخم جسما منها ، ولكنهما من نوع واحد ، فعرفت أنهما ذكر وأنثى . اذا هما حبيبان .

واقتربت الانثى وجذبتني بفمها ، فغصت في الماء ، فحاولت التهامي ، ولكنها فجأة تركتني اذ كان في ساقي شوكة غرزت بها ، فآثرت الفرار وحبيبها وراءها ، فشكرت الله على نجاتي من مصير سيّء .

وداومت على السير في هذا الليل البهيم ، ولا شيء سوى الماء والسماء .

ثم مرّ سرب من الأسماك ....فسمعت سمكة تحادث أخرى ، قائلة لها :

لقد خنت عهدي ، اذ شاهدتك ، اليوم ، تتودّدين لسواي ، فاستعدّي للقصاص الذي سأنزله بك . وهجم عليها ، وكان انقضاضه وحشيّا ، فحاولت الهروب ، ولكنه تغلّب عليها ، وظلّ يرطمها بجسمه بقوّة وعنف شديدين ، فتهاوت ثم لفظت أنفاسها ، واذا بالأسماك تجتمع عليها وتلتهمها . وكان استغرابي شديدا عندما شاهدت قاتلها يشترك مع سرب الأسماك بالتهامها . فقلت في نفسي : يا للعجب ! انّ معشر الأسماك يفعلون ما يفعله البشر ، وكنت أجهل هذا الأمر جهلا تامّا .

ومضيت بسيري في متاهة الاوقيانوس العظيم ، ثم شعرت بنعاس ثقيل يستولي عليّ ، فاستسلمت لسلطانه القاهر .

اليوم الثاني لرحلتي العجيبة

عندما استيقظت كانت الشمس تبسط سلطانها على البحر الممتدّ المسافات . ولم أشاهد أي طائر في السماء ، ولم أر أيّة رقعة من الأرض ، وعلى امتداد البصر كان البحر هو ما أراه ، هو وحده دون سواه !

واستمرّ سيري لساعات وساعات ، ولم يرافق وحدتي سوى الماء والسماء .

وكنت في بعض الأحيان ، أشاهد شتّى الأنواع من الأسماك المختلفة الأحجام والأشكال ، وكان كبيرها يلتهم صغيرها .

ومرّت بجواري مجموعة هائلة جدّا من الأسماك تقدّر بعشرات الألوف ، وكانت تسبح بسرعة كبيرة دهشت لها .

وفجأة ظهر حوت هائل ، وكان يطاردها ، فعرفت سبب اسراعها في سيرها ، اذ كانت مذعورة لمطاردتها من الحوت الجبّار .

وفغر فاه المرعب والتهم المجموعة العظيمة من هذه الأسماك الهاربة ، مبتلعا معها كميّة هائلة من الماء . ثم رأيت نافورة عملاقة من الماء تقذف من فتحتين برأس هذا الحوت ، واذا بالماء يتصاعد بقوّة وعنف نحو العلاء ، وكأنه شلاّل عظيم التدفّق .

لقد أبقى الأسماك بجوفه ، وقذف بالماء الذي هو ليس بحاجة اليه . وقد هالتني ضخامته المرعبة .

وما لبثت أن شاهدت حوتا آخر قد ظهر بجوار الحوت الجبّار ، ولكنه ليس بضخامته .

فعرفت أنها أنثاه .

وسمعت الحوت يحدّثها ، قائلا لها :

أما زلت تتبعين أثري ؟! فأنّى أتّجهت أجدك بجواري .

هو ما تقول . فلولا حبّي ايّاك لما لاحقتك . فأنت في مقتبل العمر وعنفوان قواك . فما يدريني أنك ستغازل سواي ، وهذا يدعني بحالة جنون تامّ .

ثوبي الى رشدك ، وتأكّدي بأنني لا أستبدلك بأخرى حتى لو أمرني ( يوسيدون ) بهذا الشأن فاطمئنّي .

وابتدأت الظلمة تخيّم على الأرجاء شيئا فشيئا ، وأنا كنت أسير على غير هدى وتبعا لرغبة المياه المتحرّكة ، ثم زحف الليل بجيوشه الجرّارة ، فاذا بجندس الظلمات يغمر المحيط الهائل . وفجأة سطع نور باهر في السماء أنار البحر وكأنّ الشمس قد أشرقت !....

واقترب النور المبدّد للظلمات ، ثم جسم متحرّك جعل يهبط من الفضاء ، ثم هوى بسرعة وخفّة عجيبين فاذا هو كالصحن باستدارته التامّة . وكان قطره حوالي 40 مترا . وسمع لمحرّكاته دويّ خفيف ، وكان الدويّ موسيقيّا . وكانت النوافذ تملأ استدارته . وقد شاهدت من خلال هذه النوافذ رجالا بطول القلم الرصاصي وهم زرق اللون ، وكانوا في حركة ذهاب واياب متواصلين .

وفجأة انتشر نور برتقالي غطّى مساحة من البحر ، واذا بي أشاهد أفواجا أفواجا من مختلف أنواع الأسماك تملأ تلك المساحة المغطّاة بالنور البرتقالي . وامتدّ وعاء معدنيّ استطالته ليست أقلّ من ثلاثين مترا ، وهو مستدير كالبرميل . وكانت الأسماك ترفع الى هذا الوعاء بقوّة خفيّة قادرة وبيد غير منظورة ، وتزحف في هذا الوعاء المعدني داخلة الى جوف الصحن الجاثم على الماء حتى تبلغ داخل السفينة .

واقتربت نحو هذا الصحن العجيب حتى ارتطمت بحافته ، فاذا بي أشاهد نساء بحجم القلم لونهنّ أزرق ، تتخلّل زرقتهنّ خطوط حمراء , وكنّ يتحدثنّ معا ، فأرهفت السمع ، واذا باحداهنّ تقول :

انّ بحر أبناء الأرض لا يشابه بحرنا ، فبامكان أيّ مخلوق أن يسير على صفحة بحرنا دون أن يغرق ، أمّا بحرهم فلا يستطيع أحد ما السير عليه اذ انّ الهلاك يكون من نصيبه .

وقد أمرنا أمبراطور كوكبنا المطاع الكلمة ( بورباليون ) أن نحضر له كميّة من الأسماك الأرضيّة ليرى اذا كانت تستطيع الحياة في كوكبنا الموغل في القصاء بمجاهل الفضاء .

وأجابتها رفيقتها :

لقد مكثت رحلتنا ثلاثة أعوام نوريّة حتى بلغنا كوكب الأرض ، ونحتاج الى ثلاثة أعوام لنعود اليه ثانية ، ولكن يجب علينا ، أولا ، أن نجوب كلاّ من اليابان وأمريكا والصين والأفغان ، فضلا عن ألمانيا وأسبانيا وباريس ، لنقدّم تقريرنا لأمبراطورنا العظيم عن أحوال سكّان الأرض وميولهم ، وكيفيّة بناء منازلهم ، وأنواع المواصلات التي استطاعوا أن يتوصّلوا لاختراعها ، وما هي سرعتها القصوى . كذلك علينا تقديم شرح واف عن حياة المرأة والرجل ، والعلوم التي أدركها البشر ، وكم من الأعوام تمتدّ حياة سكّان كوكب الأرض . فمعلوماتنا التي حصلنا عليها ودوّنتها تقاريرنا تفيد أنّ حياة أبناء الأرض مهما امتدّت فلا تزيد عن مئة عام ، وهذا العمر لا يبلغه الاّ النادرون من المعمّرين .

أمّا الحياة في كوكبنا فتمتدّ لألف عام ، وذلك بنسبة النظام والأحوال الطبيعيّة الموجودة فيه .

وأكملت قائلة :

وأنت يا شقيقتي تعرفين أنّ مركبنا الكونيّ اذا أصيب بضرر فادح لأيّ سبب من الأسباب ، فان قائده يسلّط عليه ( الماركريدام ) فيذوب ويتلاشى فورا هو ومن فيه ، دون أن يترك أيّ أثر يؤكّد وجوده .

فمن هذه الناحية نحن بمأمن من اكتشاف أمرنا حتى اذا شاهدنا أيّ مخلوق بشريّ – هذا اذا أوقفنا مركبنا على رقعة من الأرض – فان الصحن يتبخّر بمجرّد مشاهدته لنا ، ولا يعود ليرى ، اذ انّ القائد أو مرافقيه أو أيّ ملاّح يسلّط عليه أشعّة ( فوبوماران ) ، فيختفي عن العيان ، فيظنّه الناظر انه ارتقى بسرعة خارقة نحو الفضاء ، والحقيقة هي ما ذكرت .

ثم لم نرى أيّ اختراع خطير في الكرة الأرضيّة كاختراعاتنا المذهلة ، فسرعة مركبتنا هي بسرعة النور أي 300 ألف كيلومتر في الثانية ، في حين أنّ أعظم سرعة بلغها اختراع البشر هو 40 ألف كيلومتر بالساعة ، ولبضع دقائق فقط ؛ وهذه السرعة تسير بها المركبة الفضائيّة التي صعد بها روّاد أمريكيّون الى القمر ، وتتمّ هذه السرعة عند عودة الروّاد للأرض بعد مغادرتهم القمر ، وحينما يريدون الدخول في جوّ الأرض من الفتحة الفضائيّة التي يلجون منها الى الكوكب الأرضي ، وان اخطأوها بفقدون الطريق ويتيهون في الفضاء الى الأبد .

والآن سنذهب الى هيروشيما وناجازاكي لنقدّم تقريرا عن تأثير مفعول القنبلة النووية التي أفنت أكثر من 100 ألف نسمة عام 1945 .

وسيأتي يوم نظهر فيه أنفسنا لأبناء الأرض ، ويومذاك سيأمرنا أمبراطورنا امّا باستعمار أرضهم ، أو بتدميرها على رؤوسهم ، فهم أشرار وفجّار لا يصطلى لفسقهم بنار .

وأنا ما زلت أذكر أنّ جدّي قد أعلمني بحادث تدمير سادوم وعامورة بعدما بلغت أنباء شرورهم جدّ امبراطورنا – وكان أمبراطور أيضا – فأرسل ينذرهم بأن يقلعوا عن رذائلهم أو يبيدهم ، فلم يأبهوا .

حينذاك أرسل رسولين بمركبة نورية وأفناهم . وقد ظنّ لوط الصالح أنّهما ملاكان ، وما كانا الاّ رسولي الأمبراطور ، وهما من سلالة العمالقة . فالعمالقة في كوكبنا يتساوون بالطول مع أبناء كوكب الأرض .

وقد شاهدت أنا الوردة أكثر من 15 رجلا كوكبيّا وقد جلسوا على مقاعد صغيرة تناسب أجسامهم ، وكان أمامهم أزرار عديدة ضغطوا عليها ، واذا بالصحن يحلّق بسرعة مذهلة نحو الأعالي ، ثم تغيّبه الأبعاد السحيقة . فعرفت بانهم ذاهبون الى هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين .

اليوم الثالث لرحلتي المدهشة

كانت يقظتي في ساعة متأخّرة ، اذ طال سهري ليل الأمس بسبب الصحن الطائر . وفور يقظتي أرسلت بصري نحو الأبعاد علّني أرى شجرة أو طائر ، فما عدت بطائل ، اذ كنت ما أزال محاطة بالماء والسماء .

وظللت سائرة بتؤدة ، وكعادتي اليومية ، كنت أشاهد أرتالا من مختلف أنواع الأسماك والحيوانات البحريّة ، ولا شيء غير ذلك .

ورحت أصلّي لخالقي ، فقلت :

أي الهي خالقي وخالق البرايا ،

أنا تائه في محيط لجب لا نهائيّ ،

أسير فيه الى غير وجهة معلومة .

فبعد أن كنت في غابة فتّانة ،

بجوار مجموعة مبدعة من الورود المنمّقة ،

سقطت من يد الحسناء في البحر ،

واذاني وحيدة فريدة ،

لا أنيس لي ولا جليس

لأسامره ويسامرني ،

مخفّفا عنّي أعباء هذه الحياة الدنيا .

فيا وجودي من العدم ،

أعدني ثانية الى العدم ،

أو فدعني أبلغ شاطىء الأمان ،

واحرسني بعين عنايتك التي لا تنام .

واستمرّ سيري الطويل في محيط نهايته مجهولة المكان ....

وتتالت الساعات وأبيدت ....

ثم احتاطني ظلام هائل ، وباحتلاله ابتدأت بوادر عاصفة عظمى ، ثم تكاثرت الغيوم ، وتكاثفت ، وأطلق عنان الريح ، فاذاها مجنونة وجنونها مخيف .

ثم اجتاحت المحيط عاصفة مدمّرة ضربت صفحة البحر ، فاذا بأمواجه هائلة الرعب ! كانت الأمواج كالجبال الشامخة بجبروت قاصف . ثم ابتدأت الأمطار تنصبّ انصبابا مروّعا ، وعلت أصوات العاصفة فزأرت وكأنها زلزال مدمّر .

ثم أبرقت السماوات برقا متواصلا ...وكان الرعد يدوّي ويزمجر برهبوت تنخلع لدويّه قلوب الجبابرة !

وانقضّت الصواعق تقصف جبابرة الأمواج ، فيعلو أنينها ، ويتعالى نواحها ، فتذعر الحيتان ، وتلتجىء الى الأعماق السحيقة من هول غضب الطبيعة الذي لا يبقى ولا يذر .

وفي هذا الموقف الخطير المخيف بدت لعيني أنوار خافتة اقتربت بصعوبة كبرى . فاذاها سفينة ضخمة تتراقص من عنف أهوال هذه الليلة الشيطانيّة !

وكانت نواقيس هذه السفينة تقرع قرعا متواصلا ، أملة أن تمرّ باخرة ما تسرع لمساعدتها ونقل ركّابها المنخلعي القلوب من رهبوت هذه العاصفة المولولة بصرامة عظمى .

ويا لهول ما حدث ! اذ انقضّت صاعقة جبّارة على السفينة ففكّكت دفّاتها وكأنّها لعبة أطفال ! وكان صراخ الهول المزلزل يعلو على صوت العاصفة ، ويطغى على الأمطار المتساقطة بغزارة فائقة ، ويستبدّ بزمجرة الصواعق المتواصلة . انه صوت ركّاب السفينة التعيسة وهم يستغيثون علّهم يغاثون .

ثم ....ثم ابتلعتهم الأمواج الثائرة فاذا هم بأعماق المحيط الذي لا يشبع نهمه شيء .

اليوم الرابع لرحلتي المذهلة

لم استطع النوم اطلاقا , فقد هزتني فاجعة السفينة الغارقة وموت ركّابها عن بكرة ابيهم ! لقد طواهم الردى , وعصفت بهم الأقدار , فاذا هم في أعماق المحيط طعمة رخيصة للأسماك . فيا لمصيرهم التاعس !

وكانت عشرات الجثث طافية , ومنها فتيات بعمر الورود , وشبّان بشرخ الشباب , جميعهم مغمضو العيون , وقد سكنت حركتهم بعدما هدأت العصفة , وانقطعت الأمطار عن الانسكاب , واختفى وميض البروق , وأصيبت الصواعق بالبكم , وهدأت ثورة الأمواج الطاغية .

هدأ غضب الطبيعة بعد أن سقت هؤلاء التعساء كأس الحمام . ويظهر أنها كانت تقصدهم بدليل سكون غضبها , بعد أن فتكت بهم , واستلّت أرواحهم , وأبادت وجودهم .

وشاهدت سربا من حوريّات البحر الفاتنات , وهن يسبحن برشاقة , واقتربن حيث توجد جثث الأموات الطافية .

وجعلت كلّ حورية منهنّ تنظر الى الشبان , ثم تلمي بأصابعها أجساد الراقدين رقاد الأبد .

واقتربت أجمل عروس بحر , وأبهاهن وجها , وتمعّنت بوجه شاب لا يعدو العشرين ربيعا , وكان يطوّق بذراعيه جسم فتاة بعمره . ويظهر أنه كان خطيبها , لأن المحبس كان ببنصره . وجعلت ترثيه فقالت :

أيّها الشّاب الجميل ,

لقد فتنني جمالك ,

وأسرني شبابك .

لقد اقتنصك الموت فجأة ,

فإذاك ساكن لا حراك بك ,

بعدما كنت نشيطا ممتلئا بالحياة ,

وكانت الآمال تعمر صدرك ,

اذ كان قلبك يخفق بحبّ فتاتك الجميلة .

لقد تعاهدتما أن تموتا معا ,

وقد خاصرتها قبل أن تفارق روحك جسدك ,

وهذه المخاصرة تبرهن تفانيك بحبّ حبيبتك المسجّاة .

فواحرّ قلبي على شاب يذوي ,

والحسن يغتاله الموت الذي لا يرحم !

جمع الله روحيكما معا بفردوسه الأبديّ المفاتن والبهجات .

وذرفت عروس الماء دموعا حرّى على هذا لاشاب ورفقائه ورفيقاته , وشاركتها حوريّات البحر في حزنها الكبير ولوعتها على الكارثة المرعبة .

وما لبثت أن شاهدتني , فأسرعت والتقطتني , وغرستني بشعرها المستطيل . ثم أمسكت بيديها الغضّتين الشابّ وخطيبته , وقالت للحوريّات :

سأهبط بهما الى قصري المرجانيّ وأضعهما في حفرة مرجانيّة ,

مكسوّة بأعشاب نديّة وأزهار فاتنة بحريّة ,

فما يدريني أنهما سيتقمصان يوما لحوريّة بحر

وحبيبها المماثل كذلك بتقمّصه القادم !

وفي أعماق البحر , هناك في قصر مليكة الحواري الفاتنات ,

ألحد الخطيبان , ثم بسطت الحوريّة يدها وانتزعتني من شعرها الجميل , وثبّتتني بشعر دوريس .

التي أغمض الموت عينيها الفردوسيتين . وللحال ، غمرني حزن عظيم هزّ كياني هزّا عنيفا ،

فاذاني وقد استحلت لوردة ذابلة فجافّة .

لقد جفّت أوراقي أسى ولوعة على دوريس ،

هذه الغادة الفاتنة الحسن الرائعة المفاتن ،

دوريس التي طواها الموت وغيّبها الردى ،

لقد تنسّمت أريجي ، وتنشّقت عبقي العاطر ،

عندما كانت تقف بجوار خطيبها على ظهر السفينة ،

وكنت في ابّان ازدهاري وعنفوان ربيعي .

وها اني أعتلي قمّة رأسها ، الآن ، ثانية ،

بعدما انطوى عهدي وذبلت أوراقي ،

وجفّت عروقي ، وتوارت أيّام ربيعي ،

واحتضنني الموت الذي لا يرحم ،

مثلما احتضن دوريس الغادة اللعوب

المسجّاة بجوار خطيبها الشابّ الراحل ،

وهي راقدة رقدة الموت الأبديّ .

بيروت الساعة 9 وثلث
من ليل 21/2/1979 .

Back to أُسُسُ العقيدة الداهشيَّة بقلم الدكتور داهش

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.