وصيّتي
اطلب تنفيذها من اخوتي وأخواتي الداهشيين
أعزائي الأحباء!
سلامٌ على أرواحكم الطافحة بالحنان
وقلوبكم النبيلة العامرة بالإيمان, وبعد,
هذه هي وصيّتي إليكم, راجياً منكم أن تنفذوها بحذافيرها عندما تقضي إرادة المُوجد المُهيمن بردّي إلى وطني الحقيقي بعد أن ذُقت الأمرّين في أرض الشقاء والعناء.
نعم يا اخوتي!
إنني أطمع لأن أخلع عنِّي ردائي الماديّ الفاني,
وأتسربل الرداء الروحاني الخالد,
مُخلّفاً ورائي أتعاب هذه الدنيا الزائلة التي تزخر بالشرور والآثام.
لقد آن لي أن أستريح بعد أن كلّت قدماي من السير في مفاوز هذه الفانية.
وعندما تأفل حياتي, ويكفّ قلبي عن الخفقان,
وتغمض عيناي عن مشاهدة مهازل هذه الأرض الزرية,
وتنطلق روحي حيث جنّات الخُلد السرمدية…
إذ ذاك انقلوا جثماني والحدوه في مقرّه الأخير,
واتلوا عليه القطع التالية التي خلّفتها لكم, وابدأوا
أولاً بصلاة (النّبي الحبيب الهادي),
ثانياً بقطعة (أيها الموت),
ثالثاً بقطعة (عندما أغادركم),
رابعاً قطعة (اذكرني ولا تنسني),
خامساً قطعة (عد إليّ سريعاً),
سادساً قطعة (ضمّوا رفاتي إلى رفاتها),
سابعاً قطعة (اعصفي يا رياح),
ثامناً قطعة (سلام),
وفي الختام, لتحرسكم عين العناية التي لا تنام,
طالباً إليه أن يجمعني بكم قريباً.
صلاة النّبي الحبيب الهادي
يا أبي وأبا البرايا,
ارحم ضعفنا الموروث.
شدّد قلوبنا كي نؤمن بقدرتك ونحدّث بعجائبك.
اغرس في أعماقنا بذور الحبّ والشفقة والرحمة والحنان.
أبعد عنّا التجارب التي تريد غوايتنا وإسقاطنا في دياجير الخطايا.
سدّد خطواتنا في طريق النور والحقّ واليقين.
أبعد عنّا الأفكار الدنيئة ولا تدعّها تَقرُبُ منّا.
أنت خالق البرايا وما فيها.
فرحمتك وحنانك يسعان كل الكائنات, معلومها ومجهولها.
أشفق علينا يا اللّه ولا تحاسبنا مثلما نستحق فنهلك.
لا تدع الطمع يستولي علينا فيجرفنا بتياره الرهيب.
دع القناعة تحتلُّ أرواحنا فلا نطلب سوى القوت فنمجّدك.
أبعد عنّا الأشرار والهازئين بكلام اللّه, أَنِر بصائرهم.
طهّر أرواح الخطأة, وأرسل لهم قبساً من أنوارك الإلهيَّة فيخشعوا لعظمتك.
أقلنا من العثرات الرهيبة واشمل الجميع بعين عنايتك الساهرة.
أيها الآب العطوف,
كلُّ من ألقى إتِّكاله عليك, وعمل بوصاياك,
وضحّى من أجلِ اسمك, واحتقر رغباته الأرضية,
ونبذ الدنيويات, وعطف على البؤساء,
وبشّر بعجائبك, وآمن بنبيّك الحبيب الهادي,
فله السعادة والسماء, والنور والسناء,
هناك حيث الضياء والبهاء, إذ يخلد مع الخالدين,
ويتنعم بأنوارك الوضّاءة حتى أبد الآبدين, آمين.
أيها الموت
يا موت!
أيها الحبيب الشفيق, ويا نِعمَ الصديق.
أيها الطيف الساري والقضاء الذي لا بدَّ منه.
أيها الخيال الذي أراك في منامي وأتخيلك في أحلامي.
يا سمير وحدتي, وأنيس يقظتي, ومخفّف بلوتي.
يا طِلابَ نفسي, ومطمح روحي, ومهوى فؤادي.
يا عشيقي البعيد, ومرادي القريب.
يا عروسي الهائم في مشارق الأرض ومغاربها, وفي معالمها ومجاهلها.
أيها العاصفة الجبَّارة المُجتاحة كلّ من يقاوم إرادتها البتّارة.
يا شِبعَ نفسي الجائعة, وريّ روحي الظامئة.
يا فردوسي المفقود, وأملي المنشود.
يا مَنحى نفسي, وخِفية روحي, ومسرى ضميري.
يا سعادتي وهنائي, ويا ماحي شقوتي ومُزيل عنائي.
يا ابن الخفاء ورسول السلام, ويا بارقة الرجاء ومزيل الآلام.
يا مُوقِفَ نبضات القلوب, ومُجتثَّ حركات الأجسام.
يا كَفَنَ المطامع, ونعشَ المظالم, ورمسَ الأحقاد.
أيها الهادم الباني, والمقوّض المعمّر, والعابس الباسم , والقلق المُطمَئِن.
أيها العابسُ المُشفِق, والشجاع الوجل, والمَرِح الحزين, والمُضطرب الهادئ.
يا رسول الآلهة, ومُنَفّذ الإرادة المجهولة الأبديَّة السرمديَّة.
أيها الغائب الحاضر, الباطن الظاهر, المعلوم المجهول.
أيها الهازئ بشرورنا, الساخر بآثامنا, المُشفق على جهالتنا.
أيها الشاهد ما ترتكبه البشرية من مظالم, وما ترمي إليه الإنسانية من أطماع.
أيها الموجود في كل زمان ومكان,
في الماء والهواء, في السهول والجبال, وفي المنخفضات والمرتفعات,
في الأودية والحزون, في المعالم والمجاهل, في الأبعاد والأسحاق.
أيها الناظر غير المنظور, الحاصر غير المحصور.
أيها المُحصي علينا أعمالنا بكلِ دقّةٍ وإمعان.
أيها القائم وحدك بما تعجز عنه البشر قاطبةً.
أيها المُعجزة الفريدة, بل يا مُعجزة المُعجزات.
أيها الحاكم بأمره, السارية كلمته قانوناً نافذاً ودستوراً حاسماً.
أيها الناظر بلا شيءٍ إلى كل شيءٍ.
أيها الكأس التي ذاقها الأوّلون وسيذوقها الآخرون.
يا إمام رغائبي, ودليل ميولي, ومتّجه آمالي.
يا عزيزي وحبيبي, وصباحي ومغيبي.
يا أملي ومناي, ومطمحي ورجاي.
يا باعثَ إحساسي, ومُرهِف شعوري.
يا ملاذَ نفسي, ومعاذَ روحي.
أيها الكرى المعسول الذي يراودنا بين فترة وأخرى.
يا حبيبي الموت!
أقفل عينيّ يا حبيبي!
أقفلهما فقد تعبتا من النظرِ إلى هذا العالم القذر الموبوء.
نَعَم, وأوقِف ضربات قلبي.
هذا القلب المُحطم الذي أجهدَته كثرة الضربات دون جدوى.
وأخفِت أنفاسي, فقد عافت استنشاق هواء هذا العالم الفاسد.
وأفقد فيّ حاسة الشمّ,
إذ بحسبي ما تنسمّتُ من رائحة هذه الحياة الكريهة النتنة المُفعمة بالأرجاس.
وقيّدني بقيودك الخفيّة الخفيفة الظِّل.
فقد تعبت قدماي من السير في مفاوز هذا العالم المليء بالشرور والآثام,
الزاخر بالحسرات والآلام.
وأنِخ عليّ بكلكلك المريح,
فقد ضاق صدري بسخافات البشر وسخريات القَدَر.
وضَع بَلسَمَكَ الشافي على جراحات روحي الحائرة الحزينة,
فقد آن لها أن تستشعر نعيم السعادة الأزلية,
والغبطة السرمدية, والنشوة الخالدة القدّسية.
أُدنُ مني… لا تنأ عنِّي.
فإني أتذوق الراحة إلى قربك,
وأتلظى في جحيم العذاب لبُعدِك.
وأشفق عليّ يا حبيبي فقد تعبت نفسي من البقاء في هذا العالم البارد المُخيف.
هاتِ يدك الحارَّة وضعها على يدي الباردة.
ودع قلبي يخفق خفقات الغبطة والحبور.
هاتِ يا حبيبي ولا تقسُ عليّ,
إذ حسبي في هذا العالم الفاني قسوة من يعيشون فيه.
هاتِ يا حبيبي!
وارحمني من هذا العالم واختطفني من هذه الحياة.
آه يا حبيبي! ما أتعس هذا العالم!
وما أمَضَّ آلام هذه الحياة!
وما أشقى هذا الوجود وما أقساه!
للّه!… وما أجمل عالمك وأبهاه!
رحماك,رحماك, يا حبيبي الموت ألا تسمع؟
عندما أغادرُكم
عندما يضرب البُعد بيني وبينكم حاجزاً منيعاً,
وأغيب عن أعينكم المُشتاقة لرؤية وجهي المعروف لديكم,
ويلحُّ بكم الشوق العميق لأن تعودوا فتجتمعوا معي كالسابق,
إذ ذاك تذكّروا أقوالي لكم, وقرّبوا صورتي إلى مخيلتكم,
وتأكدوا بأن ما تتمنّونه هو أمنيتي التي كنت لا أحيا إلا لها,
لأنني أحبكم كثيراً! … أحبكم كثيراً! …
عندما يتأكّد لكم إنني جُلدتُ وصُفعتُ وأُهنتُ,
وساقني الجلاّدون تحت الإهانة والشتم المرذول,
وزجّوا بي في أعماق سجنٍ مرعبٍ مُخيف,
وهناك لم يقدّموا لي ما أسدُّ به جوعي الشديد وعطشي المُهلك,
إذ ذاك تذكروني يا أحبّائي مثلما تكون ذكراكم مُمتزجةً في روحي,
لأنني أحبُّكم كثيراً! … أحبُّكم كثيراً! …
عندما تمضي الأيام , وتنصرم الشهور, وتفنى الأعوام,
وأنتم تترقّبون عودتي المُبتغاة, لأمكث بينكم,
ولكن رغبتكم المُلحّة تبقى حبيسة في صدوركم دون أن تتحقّق أمنيتكم,
إذ ذاك , تذكّروا يا أعزائي إجتماعاتي السابقة بكم وقولوا: لقد كان حُلماً عذباً طوّف في عالمنا للحظات ثم توارى,
لأنني أحبُّكم كثيراً! … أحبُّكم كثيراً! …
عندما تتبدَّد أمالكم في إمكان عودتي حيث أنتم,
ويطوي الزمان أعوامه في لُجَجِهِ الُمدلهمة ,
وتطوّف تذكاراتي في أفئدتكم فتقرأون ما خلّفته لكم,
إذ ذاك قولوا: لقد توارى عن عالمنا كالبرق الخاطف,
وتأكدوا بأنني أنظركم من عالمي البعيد بشوقٍ وحنين,
لأنني أحبُّكم كثيراً! … أحبُّكم كثيراً! …
اذكرني ولا تنسني
عندما تُطوى صحيفتي من هذا الوجود,
وبعدما تتأكد يا أخي الحبيب بأنني لن أعود,
وبعدما يبلُغُكَ أنني قد اخترقت السدود, واجتزت الحدود,
وخلعتُ عن نفسي تلك القيود, وبَلَغتُ بروحي عالم الخلود,
وعندما أكون قد التحقت بمن سبقني من الآباء والجدود,
فإيَّاك, إيَّاك أن تستسلمَ لسلطان الحزن والجمود,
بل اذكرني, اذكرني يا أخي الحبيب ولا تنسني!…
عندما تراودك ذكريات أيامنا العذبة الزاهية,
وتخامرك تذكارات أويقات سعادتنا الهانئة ,
وتمرُّ بك أطياف أمانيّ الخلابة والمصوّحة الآفلة,
وترى ورود رغباتي الذاوية,
وأزهار أشواقي الذابلة,
وبعدما أكون قد حلّقت بعيداً بعيداً عن هذه الفانية,
لا تسكبَ عبراتك, لأنني أكون في جنّةٍ قطوفها دانية,
بل اذكرني, اذكرني يا أخي الحبيب ولا تنسني! …
عندما تشعر بنسماتٍ لطيفةٍ تداعبك وتُحْييك,
ثم تحوّم حولك برقّةٍ فائقةٍ كي تُحَيّيك,
وتهبط الأطيار الفائقة الفتنة على الأيكِ وتناغيك,
وتُطلِقُ لك أغاريدها العذبة فتذكِّرُك بهاديك,
وبعدما تُبعَثُ أحلامك من مراقدها وتنطلق أمانيك,
فاعلم بأنها جميعها من وحي روحي تناجيك,
فاذكرني, اذكرني يا أخي الحبيب ولا تنسني! …
عُد إليّ سريعاً
مُهداة إلى روح مجدا العزيزة
أهكذا انقضت أوقات سعادتنا وتلاشت دقائقها؟
أهذه هي إرادة اللّه أن نخوض في محيط من الأحزان والدموع؟
ويلاه … وهل حقاً مضتْ إلى غير ما أوبةٍ حتى يوم النشور؟
ربّاه … وهل قُضي عليّ أن لا أعود فأراها حتى تواريني القبور؟
للّه! … لقد كانت لأيام خلتْ رافلةً بثوب العافية,
تحيطني بعنايتها وتشملني بعين رعايتها.
إِيه أيها المنزل الرَحبُ الفسيح القاعات.
إنَّ غيبة ملكتك أحالَ نورك ظلاماً, وردَّ بهجتك قُتاماً.
فسَواءٌ لديّ اليوم البؤس والشقاء واللوعة والبكاء.
وسيّانٌ عندي أقضيتُ في الغداة أو في العشيّة.
لأن حلمي الذي بُتُّ اليوم أتمنّاهُ وأتوقُ إلى مرآهُ,
هو اجتماعي بمن خلّفتّني وحيداً في صحراء هذه الدنيا التعسة.
إنني أراها في يقظتي ورُقادي,
وأرى شبحها اللطيف ماثلاً دوماً أمامي,
سواء أكان هذا في الليل أم في النهار,
في أوقات الصلاة والعبادة أم في أويقات التأملات الحزينة.
إنني أراها في الماء والهواء والسماء وقبّة الفضاء.
أراها في نورِ البدر الناعم الأضواء.
أراها في جمالِ الشَفَقِ البعيد الحالم.
أراها كقطرةِ الطلّ النديّة التي تُتوّجُ الزهرة البهيّة.
أراها من خلال الغيوم التي تكللُ هامة السماء القصيّة.
أراها مُتَلَفِعَةً بالضبابِ السابحِ في فضاء اللانهاية.
أراها من خلال دموعي الحرّى التي تتساقط على وجنتيّ الذابلتين.
أراها من خلال آلامي العميقة وأحزاني السحيقة.
أراها من خلال تأوهاتي التي تمزِّقُ قلبي الكئيب من أجلِ بُعدها الرهيب.
أراها هناك هناك …
حيث لا يستطيع أن يبلغ إليه فكريَّ الخياليَّ الهائم في بيداء تصوراته الشعرية.
أراها من وراء السُدُمِ العجيبة وهي تمرحُ بين أترابها من ملائكة اللّه الحيّ,
تنظرُ إلى عينيّ المقرّحتين وهي تبتسمُ ليّ بعطفٍ سماويٍ,
وترنو إليّ بعينها الروحيّة التي تذوب بالعاطفة الإلهيَّة,
فأُلقي بنفسي في غمرة لذّتي ونشوتي بين أحضان عالم الأرواح بالمُتَع,
وأمكث مع فتاتي الفتّانة التي ضحّت بزهرة عُمرها وريّان صباها لأجلي.
هذه الفتاة التي بذلت نفسها وقدّمت روحها قرباناً على مذبح حُبّي …
وأقضي الساعات وأنا أرشفُ من رحيق وحيها وحُبّها,وجوارحي تطلب من لقائها المزيد.
وعندما تهبط بنات النور إلى عالم الأرض المُظلم ترتقي قمم الغيوم,
وتعود إلى موطن السلام الدائم وهي تلوّحُ ليّ بأناملها المعبودة وكأنها تقول ليّ اخلع رداءك المادي! وعُد إليّ يا حبيبي سريعاً كي نحّيا معاً في ربوع هذه الفراديس الخلاّبة حتى انقضاء الأعمار والأدهار. فتُجيبها روحي الحزينة:
لبّيك يا زهرة عمّري! … لبّيك يا حبيبة آمالي! … لبّيك!
ضمّوا رفاتي إلى رفاتها
عندما تدقّ ساعتي الأخيرة السعيدة,
معلنةً انتهاء آلامي في أرضِ الشقاءِ والعناء,
وتهبط روح الطهر لترافقني إلى عالم البهاء والهناء,
فأوغلُ معها بمرحٍ وحبورٍ وفرحٍ وسرورٍ,
قاطعاً المسافات, مُرتقياً الأبعاد السماويّة,
يدفعني الشوق الذي يقصّر عنه وصفي
كي اجتمع "بمجدا" الحبيبة …" مجدا" المُفدّاة.
إذ ذاك … أطلب إليكم يا أحبّائي أن تضمّوا رفاتي إلى رفاتها
كي يطمئن جسدي الترابي الفاني بالمكوث معها,
مثلما تكون روحي الخالدة الشجيّة قد انتشت من امتزاجها بروحها النقيّة!! …
عندما تُقفل عيناي, وتَثقُلُ أذناي, وتصفرُّ وجنتاي,
وتهمد حركات الحياة في جسدي الراقد رقاده الأبديّ,
وتنطلق روحي في المسافات الزرقاء اللانهائية,
باحثةً عن روح "مجدا" التي بكيتها كثيراً, ونشدُّتها كثيراً, وحزنت عليها كثيراً …
حتى تجدها في فراديس الحُبِّ الحقيقي الخالد,
فتمتزج بها, وتغمرها بعطفها ولطفها وحنانها الأبديّ …
إذ ذاك … أرجوكم يا أعزائي الأوفياء أن تجمعوا بين رفاتي ورفاتها
كي يطمئن جسدي الغريب بالقرب من جسدها العجيب,
مثلما تكون روحي الفرحة قد امتزجت بروحها المرحة!! …
عندما يقف قلبي عن ضرباته المعتادة,
ويصبح جسدي كميّةً مهملةً لا شأن لها,
وتدبُّ برودة الموت في أطرافي المتصلّبة,
وتنسجُ يد الفناء رسومها الغريبة على أسارير وجهي الشاحب,
وتسبّح روحي منقّبةً عوالم النجوم عن "مجدا" التي أحبّتها روحي,
وتجوس الفراديس الإلهية حتى تكتشف مقرّها الخلاب,
وتحيا بقرب روحها اللطيفة, وترتشف معها كؤوس المسرّات الروحيّة,
إذ ذاك … أضرع إليكم يا خلاّني الأمناء
أن تمزجوا رفاتي الخامدة برفاتها اللطيفة الهامدة
كي يطمئن جسدي البالي لانضمامه إلى جسدها الغالي,
مثلما تكون روحي الشقيّة قد سعدت باجتماعها بروحها الزكية.
عندما تنظرون جثّتي التي غادرتها الروح,
وتشاهدون السكينة الخرساء الأبديّة التي تغمرها,
وتلمسون جلال الموت يظللني بجناحيه الكئيبين,
وتخاطبوني فلا تسمعون مني الجواب,
لا تحزنوا عليّ إذ ذاك … ولا تنتحبوا,
بل اطربوا في أعماق قلوبكم واغتبطوا,
لأنني أكون إذ ذاك قد اجتمعت بروحِ "مجدا" الحبيبة, "مجدا" المُفدّاة,
فتاة أحلامي الذهبية, وربَّة آمالي الشعرية,
"مجدا" من ضحّت بحياتها لأجل حياتي, وبذلت روحها لأجلِ روحي.
وأوصيكم يا أحبّائي الأعزاء أن تضعوا رفاتي مع رفاتها
كي يبتهج جسدي بانضمامه إلى جسدها,
مثلما تكون روحي الحائرة قد اجتمعت بروحها الطاهرة!! …
إعصفي يا رياح
القرار
إعصفي يـــــا ريـــــــــاح واهطلي يا سمـــــــاء
وانتحب يا صبــــــــاح واكتئب يا مســــــــــاء
واضطرب يا زمـــــان واصطخب يا قــــدر
بعد ذات النقاء
هناك في الهضــــــاب هناك في الضبـــاب
"مجدا" ابنة السَّحـاب قد لاقت الصحـــاب
فاعصفي, فاعصفــي يا رياح, يا ريــــــــاح
بعد ذات الوفاء, الوفاء!
مرّت علــــى الغيــــــــوم واجتازت الغمــــــــــــوم
يا سعـــــــــــــدها تحــــــــوم في ذروة النجــــــــــــــوم
فاهطــلي, فاهطـــــــــــلي يا سماء, يا سمــــــــاء
بعد ذات الصفاء, الصفاء!
يـــــــــــــــا غـــــــــادةَ الحُـــــبِّ وحَبَّـــــــــــةَ القلـــــــــــــــــــــــــب
طيــــري على السُحُب لرؤيــــــــــــــــــــــة الــــــــــــــربِّ
وانتحــــــب, وانتحـــــــــــب يا صباح, يا صباح
بعد ذات السناء, السناء!
في ثغــــــرك البسيـــــــــم ووجهــــــــــك الوسيـــــــــــم
عذوبـــــــــــة النسيــــــــــــــــم فـــــــي جنّة النعيـــــــــــــــم
فاكتئــــــب, فاكتئـــــــــب يا مســــاء, يا مســــــاء
بعد ذات الهناء, الهناء!
طوفي مع الريــــــــــاح في عاـلـــــــــــــــم الأرواح
فأنت في الأفــــــــــــراح ونحن في الأتـــــــــــــراح
فاضطرب, فاضطرب يا زمان, يا زمـــــــــان
بعد ذات الولاء, الولاء!
يـــــــــــا خالــــــــــــــق السمـــــاء ومُبــــــــــــــــــدع الأكـــــــــوان
أرسل لنــــــــــــــــــــا العـــــــــــــزاء وبلســـــــــــــم السلـــــــــــــــوان
فاصطخـب, فاصطخب يا قــــــــــدر, يــــــــــا قــــــــــــدر
بعد ذات البهاء, البهاء!
واسمع بكـــــــــا الحزيـــــــــــــن والدمــــــــــــع والأنيـــــــــــــــــــــــن
وأطلـــــــــــــق المسكيـــــــــــــــــــن واجمعــــــــــــه بالخديــــــــن
والتهــــــــــب, والتهـــــــــــــــــــــب يا جنـــــــــان, يا جنــــــان
بعد ذات الضياء, الضياء!
فأنــــــــت ربُّ الجـــــــــــــــــــــود ومصــــــــــدر الوجـــــــــــــــــود
أَرجِــــــــــع فتــــــى القيـــــــــــــود لموطــــــــــــــــن الخلــــــــــــــــــود
فاحتجـــــــــب, فاحتجـــــــب يـــا قمـــــــــر, يــــا قمـــــــــــــــر
بعد ذات النقاء, النقاء!
القرار
إعصفي يـــــا ريـــــــــاح واهطلي يا سمـــــــاء
وانتحب يا صبــــــــاح واكتئب يا مســــــــــاء
واضطرب يا زمـــــان واصطخب يا قــــدر
والتهـــــب يـــا جنـــــــــــان واحتجــــــب يـــــــا قمــــر
بعد ذات النقاء
سلام
سلامٌ على ذلك العالمِ الروحيّ المضيءِ الخالد.
سلامٌ على تلك الأنوار الدائمة السطوع.
سلامٌ على ذلك المجد الإلهيّ الفائق البهاء.
سلامٌ على تلك الديار التي أحنُّ إليها أبداً.
سلامٌ على تلك الربوع المقدسة النقية.
سلامٌ على ذلك الملأ السرمدي الطاهر.
سلامٌ على قاطنيه الأبرار المعاينين أنواره الباهرة السنيّة.
سلامٌ على العالم المجهول الذي لا خباء له ولا أفول.
سلامٌ على تلك الأماكن الأرجة العبير.
سلامٌ على مَن مكّنتهم قدسيتهم من ولوج ذلك المكان الحصين الأمين.
سلامٌ على مَن اضُطهدوا وعُذِبوا في سبيل عقيدتهم الثابتة الحقَّة.
سلامٌ على مَن ذاقوا الهوان وشربوا كأسها المريرة حتى ثمالتها.
سلامٌ على أرواحهم السعيدة من الأزل وإلى الأبد.
سلامٌ أنثره على هذا الطرسْ من قلبٍ كسيرٍ خافقٍ حزينٍ مكلومٍ ممزّق.
سلامٌ على عالمٍ غير عالمنا المادي المرذول.
سلامٌ عبقٌ فوّاحٌ عطريٌ لا ماديٌ موبوءٌ قذرٌ.
سلامٌ أبديٌ إلى أحكامه العادلة النافذة.
سلامٌ من عالمي الحقير هذا أرسله إلى ذلك العالم العظيم السامي.
سلامٌ من "مسكينٍ" ملأ الكون بآثامه وهو يضرع إلى اللّه أن يغفر له آثامه تلك!
وأن يَسَعَهُ بمراحمهِ التي شملت الكائنات وطغت عليها!
نعم! … سلامٌ … سلامٌ … سلامٌ!
ملاحظة: أرجو أن تنقشوا على بلاطة القبر هذه القطعة:
إلى حبيبيَّ الموت
إلى القوّة القادرة, القاهرة, الصاهرة…
إلى الحقيقة المجهولة منذ الأزل والى الأبد…
إلى التمنّيات المعسولة, المريرة الطعم, السائغة المذاق…
إلى القوّة الجبّارة, السامية, العلوية, السماويّة…
إلى كلِّ ما أرجوه منذ وُجِدتُ على هذه الفانية…
إلى تمنّياتي الحارَّة, العميقة, الخرساء, الصارخة…
إلى كلّ آمالي, ورغائب نفسي, وخفاياها…
إلى عشيقي, وأليفي, وخديني, وأحلامي الذهبية…
إلى حبيبي … "الموت"… أُسلِّمُ نفسي وروحي!…
وليُنقَش على صفحة الرخامة المقابلة هذا الرسم وتحته الكلمة التالية:
أنا ظِلٌّ سرعان ما يطوف في وادي الحياة ويتلاشى…
والموت يقظةٌ فتّانةٌ يحنُّ إليها كلُ مَن صَفَت نفسه وسَمَت روحه…
ويخافها مَن كثُفت أفكاره, وكثُرت أوزاره…
وبعد موتي سيهبط أشخاصٌ آخرون يأتون بعدي من ذلك العالم
السحريّ الذي سأنطلق إليه.
داهش 9 شباط 1945